أخي القارئ الكريم، لا بُدّ أنك –مثلي- دخلت في اختبارات وامتحانات كثيرة، مرات ومرات، وتتبعت أحوالك النفسية، ورأيت أحوال زملائك، قبل الامتحان وفي أثنائه وبعده.
والظاهرة التي سأحدثك عنها، ليست غريبة، ولا متخيّلة، بل هي واقعية متكررة، ملحوظة من قِبل كثير من الناس، ولكني أردت الوصول من خلالها إلى حقيقة يغفل عنها أكثر الناس، بل أكثر المؤمنين. في الشهر المنصرم، حينما بدأت امتحانات الطلاب في المدارس، أخذت أرقُب طلابي قبل دخول القاعات، ثم في القاعات التي أكلف بالملاحظة فيها، وبعد خروجهم، وتذكّرت أيامي الخوالي، وزملائي، حين كنا طلاباً؛ فكنت أرى خوف الخائفين، من الطلاب المجتهدين، قُبيل الدخول في الامتحان؛ لأنَّ المجتهدين الحريصين على التحصيل العلمي، يتخيّلون كل سؤال صعب أمامهم، ويتوقّعون أن يمتحنوا بكل جملة وكل كلمة، فيتوجّسون خيفة.
وأرى -في المقابل- اللامبالاة عند الطلبة الضُّّعفاء الخاملين؛ لأنهم لا يدرون من المقرّرات الدراسية إلّا عناوينها، ويحسبون أنّ هذه العناوين هي موضوع الامتحانات وحدها، فيستسهلون دخول الامتحان، وقد ترى البسمات الغبية تطفح على وجوههم.
وبين هؤلاء وهؤلاء درجات من القلق والاهتمام، لما هم مقدمون عليه؛ لأنهم سيكرمون أو يهانون.
فإذا دخلوا جميعاً قاعات الامتحان، بدأت الأحوال تتغير؛ حيث تأخذ خفقات قلوب المجتهدين المستعدّين بالتباطؤ، وتشرع قلوب الكسالى المهملين، تتسارع دقاتها.
فإذا نُِشرت صحف الامتحان بين أيديهم أخذ الهدوء مأخذه في صدور المجدّين المتقدمين، لما حلت فيها من الطمأنينة، حيث يكتشفون أنّ الأسئلة دون ما توقعوا، وأنّ إجاباتها في مُكنتهم وطوع بنانهم، فتنشرح أساريرهم وتظهر عليهم السكينة.
ويبدأ الكسالى والأغبياء، وأشباههم، بالتضجّر والتململ والتبرّم بالأسئلة وواضعيها، لما يرون من صعوبة حلها، كأنها ألغاز، ويسيطر عليهم القلق والخوف، لما يتوقعونه من نتائج الاختبارات وافتضاحهم بالرسوب.
هذا إذا كانوا من أهل الحياء، وهو باقٍ في الطلاب الصغار، وصار شبه مفقود في الطلاب البالغين المراهقين.
وليس المهم هو امتحانات المدارس وأمثالها، فإنها مهما كانت نتائجها فإنّ لها بدائل تعوّض عنها، وقد يحصّل الفاشلون في الدراسة، من حطام الدنيا وثمراتها، أكثر مما يحصله المجدّون المتفوقون، كما قال الشاعر:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله * وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
ولكنّ هذه الامتحانات الدنيوية، تذكّرنا بالامتحانات التي تظهر نتائجها في الآخرة، يوم الدِّين؛ فإنّ بينهما شبهاً كبيراً؛ فتجد المؤمنين الطائعين هم أكثر خوفاً من الحساب، ولقاء رب الأرباب، يزداد باطرادٍ بنسبة قوة إيمانهم وكثرة طاعتهم وعبادتهم، وهم في الحياة الدنيا.
وتجد الكافرين والمنافقين وضعاف الإيمان، أقلَّ اكتراثاً لشأن الآخرة والحساب؛ لأنهم لا يقدّرون قدر الإله العظيم الذي سيحاسبهم على أعمالهم، ((مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)) [الحج/74]، فتجدهم مطمئنين في الدنيا باطرادٍ، بحسب نسبة كفرهم ونفاقهم وبعدهم عن الإيمان بالله، فكلما كان المرء أشدَّ كفراً ونفاقاً، كان أشد استقراراً وأمناً في الدنيا-في الغالب-، تُجاهَ ما ينتظره من حساب وعقاب؛ لأنه لا يتيقن حصوله، بل هو في شك من الآخرة، كما قال الله تعالى: ((بَلْ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ))[ النمل/ 66].
فإذا قامت القيامة، وحضرت الساعة، بعد النفخ في الصور، وحُشر الناسُ إلى أرض المحشر، ودنت الشمس من رؤوس الخلائق مقدار ميل، وتطايرت صحف الأعمال؛ بدأت أحوال الناس تتغير، فمن كان خائفاً أخذ يشعر بالأمن، ومن كان آمناً بدأ يُحِسُّ بالخوف، ويستبدُّ به القلق. فربُّنا – تبارك وتعالى- لا يجمع على عبدٍ خوفين وأمنين، كما ورد في الحديث القدسي الشريف:
عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، يروي عن ربِّه، جلّ وعلا، قال: ((وعزتي، لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين، إذا خافني في الدنيا، أمّنته يوم القيامة، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة)) [صحيح ابن حبان ، حديث رقم: 640 ، كتاب الرقائق، باب حسن الظن بالله تعالى].
اللهم اجعلنا ممن يخشونك، ويخافون عذابك، ونحن في الحياة الدنيا، حتى تؤمّننا يوم الفزع الأكبر، يوم القيامة . آمين.
الدكتور خالد الخالد