يتجلى المعشوق مخلوقاً أسطورياً في قصائد الغزل العربية، يُحاط بوشاح من القدسية، ولا يُدرَك إلا آسراً مَنيعاً، وقادراً مُتحكِّماً، وهو مع ذلك مرغوبٌ مطلوب، مقبولُ الفتنة، مسوَّغُ العبث بالأفئدة، واللهو بالراحات والأرواح، مُسامَحٌ على ما يقترفه من هنات وهفوات، يستمد قدسيته مما للعشق من قدسية ... العشق الذي بلغ الشعر فيه مبلغه القصيًّ حتى سُمح بروايته في دور العبادة، وحتى صار للموت سبباً، فصدَقَ رجلٌ من عذرة حين قال: "نحن قوم مَن بلغ منا العشقَ مات"!
ومن مفاخر هذا الاتجاه من الشعر أن القول فيه من لدن المرأة لم يكن مستنكراً منذ طفولة الشعر العربي، وقد بلغت القرنين من الزمان قبل الإسلام على رأي الجاحظ، وأبعد من ذلك على رأيي أنا، ومَن يقرأ الكتب التي وضعها المؤلفون المشارقة القدماء في أشعار النساء، فضلاً عن كتب الأمالي وأخبار الأدب والأدباء، أو كتب التراجم الأندلسية والمغاربية فإنه سيتبين ذلك، بعد أنْ يبلغ منه العجب مبلغاً.
ولماذا العجب؟
ذلك لأن هذا الغزل النسوي، وأقصد شعر العشق السامي، لم يقتصر على فقيرة دون أميرة، ولا على متفقهةٍ دون فقيهة، ولا على الرعاع دون العِلية، ولأنه صار فيما بعدُ ذكورياً أسوةً بالمجتمع، فحُجبت المرأة عن القول فيه، أو حُجِبَ عَـنَّـا ما قالـتْهُ، فامتنعت الكتب عن روايته، بعدما انحسر رواته، وقلَّ مَعينُهُ، وزاد ظُلم الرجل للمرأة، حتى عصفت بالشرق عصور متأخرة سُمِّيتْ مُظلمة، فاشتدتْ معها ظُلمة شعر الغزل النسوي وشهدتْ انحساره جُملةً، إلا في القليل النادر.
وإذا كان مما يميز الشعر العربي الحديث ويَسِمُهُ بالتطور فذاك هو هذا النوع من الشعر، فصار له شواعر معروفات مشهورات، ودواوين تتناثر هنا وهناك في مكتبات أغلب أقطار العالم العربي الإسلامي، ثم صارت الشبكة العنكبوتية عنكبوتاً له. ولا أبعُدُ قبل أنْ أشير إلى شاعرة مائزة من شواعر العصر هي الشاعرة الإماراتية فواغي القاسمي وبين يديَّ ديوانها (ألم المسيح ردائي) الذي صدرت طبعته الثانية هذا العام (2007).
تبدو فواغي القاسمي في قصائد هذا الديوان عاشقة من درجة رفيعة، إذْ تحتفي بالعشق أيما احتفاء، وتُدني إليه مخابئ الروح، وتسعفه بنبض القلب، وتُديم الحنوَّ له، والسهر عليه، وتخلصه لمعشوقيها... هل قلتُ معشوقيها؟.. نعم، قد فعلتُ، فهي تختزل العشق في ذاتها ليتسرب منها في اتجاهات متعددة بتعدد المعشوقين. وأول المعشوقين الله جلَّ جلاله، وهي تقدِّمه في ديوانها على سواه في المنـزلة فتجعله الأول في الترتيب، فهو الواهب، والعشق من بعض هباته، ومكامن قدراته، ولذلك توجَّب إدراكه من خلال الذات، ثم التوحد في ذاته:
وأبصرتُ فيك إلهي جلالاً........ ومن ملكوتك أبصرتُ نفسي
تجلتْ لعيني حقيقة كوني......... وأنك عينُ يقيني وحَدْسي
وأنك نور الورى السرمدي...... تنـزه عن كل أمر بلبس
فوحدتك الله رباً عظيماً......... تمجد في القدس عن كل قدس
وأيقنتُ أنك في الكون كلّ...... فذاب بذاتك روحي وحسّي
ولاشك في أن الشاعرة هنا تغترف من معاني من سبقها من المتصوفة الذين جعلوا لمفردات العشق معانيَ خاصةً بهم وحدهم، وبالحب الإلهي وحده، لتصير فيما بعدُ مصطلحاتٍ وُضعتْ فيها الكتب، وأصبحتْ وما تدلُّ عليه عِلماً من العلوم، كما وُضعتْ في غزلهم الصوفي الدواوين الخاصة.
وهناك قصائد أخرى في هذا المعشوق في أماكن متفرقة من الديوان، مثل "شهيد الحب".
وثاني المعشوقين في صفحة قلب الشاعرة الوطن، فهو الملهم والراعي للعشق، وهو مكانه وزمانه، فحقَّ الإخلاصُ له، والتضحية بالنفيس من أجله:
تملكتَ مني جوارح نفسي.... وروحي، وقلبي عليك انختمْ
وألهمتني الحب حتى غدوتُ..... أرنم باسمك عذب النغمْ
سأرخص دون ذراك الدماء..... وأجتاز في الهول عب الخضمْ
...
غير أن الشاعرة تذهب في عشقها لوطنها بعيداً في هذه القصيدة، فتتراخى غنائيتها الأنثوية العذبة ليطغى طابع التحدي والانتقام من أعدائه:
إذا ما دنتْ من حماك الخطوبُ.... ركبتُ الوغى وشحذتُ الهمم
لأسقي عداك زؤام الحتوف..... ونار الجحيم كسيل الحمم
فأنت الإمارات رمز الصمود..... تجاوزت في العز أعلى القمم
سأسحق فوق ثراك الأعادي...... وأحمي حماك كطود أشمّ
....
وهناك قصائد أخر كذلك لهذا المعشوق في أماكن أخرى متفرقة من الديوان مثل "جف اليراع"، و"طنب الجريحة".
وتتجلى إنسانية الشاعرة وما تنطوي عليه نفسها الوقور من العشق السامي الذي لا تشوبه شوائب نفوس الآخرين من البشر، في قصيدتها "ألم المسيح ردائي" التي جعلت عنوانها عنواناً للديوان، حيث التسامح.. هذا المعشوق الذي تستشعر من خلاله الحكمة في ذات الله وكينونته، ثم تصرِّح بحكمتها الأثيرة:
أبصرتُ من نور اليقين حقيقتي.... ووجدتُ في ربي عظيم فنائي
أسلمتُ أمري للذي هو واحد..... وقد ارتضيتُ بقسمتي وقضائي
....
وعلى الجانب الآخر يقف المعشوق في شخصه الآدمي، فيأخذ مساحته الواسعة من شعر فواغي العاشقة دائماً، وتحاوره على مدى "يا عذابي من غرامي"، و"شوق ولهيب"، و"غرام وشجون"، و"ما على الدهر ملام"، و"أرق الزمان لصبوتي"، و"محاكاة"، و"سلام سلام"، و"كم ليل العاشق ممتد!"، و"نجم العشاق.. حنانيك بمهجتي"، و"أعد لي قلبي يا سارقه"، و"عهود العرام"، و"دع انعكاسك في ذاتي"، و"لا تسلني من أكون"، و"خلب الغرام جنانا"، و"زائري في ليلة صيف"، على الرغم من مراوغة بعض هذه القصائد في الإفصاح عن المعشوق على الحقيقة، ولها الحق في ذلك، وأقول بعض القصائد لا جميعها لأن محاورة الإنسان معشوقاً في البعض الآخر منها لا تشتبه بذات الله تعالى شأنه، كما تفترضه قواعد الغزل الصوفي، وما اعتاد المتصوفة على استخدامه من المصطلحات وصفات العاشق والمعشوق، أو كما تدل عليه صفات المُخاطَب.
وللشاعرة معشوقون آخرون يُلهبون عواطفها وغنائيتها المعهودة وهم يحومون حولها في إطار العائلة.
إنَّ الشاعرة فواغي القاسمي تتوحد والعشق بوصفه ملمحاً أصيلاً لا ينبغي للإنسان أن يتخلى عنه، أو أن يكون مُفرَّغاً منه، ووجهاً من وجوه الله، لا يُرى إلا من خلاله، وعندما نقول "العِشق" فلأن الشاعرة لا تُهادنُ في مشاعرها، ولا تُرسلها جزافاً، ولا تعبر عنها على سبيل الاعتياد أو المجاملة أو اللامبالاة، بل هي حادة المشاعر، مخلصة الجَنان، لها في العذريين أسوة وقدوة، ولذلك فمشاعرها تتغلغل في العشق، وهو عندها قيمة ترتقي إلى مستوى التقديس والتبجيل، ولهذا لا نجدها معشوقة في شعرها، بل هي العاشقة دائماً، وعلى هذا دارت معانيها، وإليه جَرَتْ مقاصدُها، فأسبغتْ بذلك على قصائدها طابعاً إنسانياً، متجاوزة فيه الأنا والذات.