إنّ الطابع العلمي للدرس اللساني جعلني أفكّر في طريقة رأيتها الأمثل لتقريب الفكر اللساني إلى المتلقي العربي، فحاولت أن أتقمّص دور هذا الأخير لأخمّن في بعض الأسئلة التي قد يطرحها للاستفسار عن خفايا و مزايا هذا العلم، لأنتقل بعد ذلك إلى الإجابة عنها بطريقة موجزة و مبسطة، و لتكن البداية في السؤال العام الذي عنونت به المقال:
* س: ما هي اللسانيات؟
* ج: اللسانيات علم يتميّز عن باقي الدراسات اللغوية بامتلاكه مجموعة من الخصوصيات المعرفية المتمثلة في المناهج و المفاهيم و المصطلحات الخاصة، كما أنّه يتّسم بالموضوعية و العلميّة.
* س: بما أنّه يتّسم بالموضوعية، فما هو موضوعه؟
* ج: موضوع اللسانيات هو اللسان.
*
* س: إذا كان موضوعها اللسان و هي دراسة علمية، فلماذا لا تسمى بعلم اللسان؟
* ج: بالفعل، يسمى هذا العلم أيضا بعلم اللسان، لكن المترجمين العرب يفضلون تسميته باللسانيات قصد الاختصار، تماما مثل ما هو الحال عند الغرب، و هذه الطريقة تستعمل في تسمية علوم مختلفة، كالصوتيات و السيميائيات و الرياضيات...بإضافة اللاحقة "يات" للدلالة على العلم، ففي الفرنسية -مثلا- تٌضاف اللاحقة (tique) التي نجدها في: Linguistique (لسانيات) و Sémiotique (سيميائيات أو سيميائية) و Phonétique (صوتيات)...
* س: و ما هو اللسان؟
* ج: اللسان نظام تواصلي.
* س: أ ليست اللغة و الكلام كذلك؟
* ج: لا يجب أن نخلط بين اللغة و اللسان و الكلام: اللسان هو عبارة نظام تواصلي (بمعنى معيار أو مجموعة من القوانين المتحكمة في التواصل البشري)، على أن يكون ذلك في بيئة لغوية متجانسة (مشتركة في الثقافة و الحضارة...)، و يقنِّن اللسان التواصل البشري للفرد المثالي (=متكلم/مستمع). أمّا اللغة فهي تلك الملكة الإنسانية التي يتميّز بها الإنسان عن باقي المخلوقات (مثل ميزة العقل)، فإذا استغل هذه الميزة فبإمكانه أن يٌصيب و بإمكانه أن يُخطئ، فالمهم أن يتمكّن من التعبير و التواصل؛ لذلك يمكننا أن نصف اللغة بالصحيحة أو الخاطئة، بينما لا يمكننا أن نصف اللسان بذلك لأنه أصلا مجموعة من القوانين الصائبة. أما عن الكلام فهو الإنجاز الفعلي للسان في الواقع، أي أنّه الجانب التطبيقي أو العملي للسان، لذلك يمكننا هنا أيضا أن ندرس كلام الأفراد مقارنة بالقوانين التي يفرضها اللسان، فنقول إنّ هذا الفرد طبّق القاعدة أو اخترقها. تماما مثل السارق -مثلا- الذي يعرف أنّ السرقة غير مشروعة؛ لكنّه بالرغم من ذلك يسرق. و ألخص كل ذلك في هذه الجملة: المتكلم يتكلم (كلاما) بالاستعانة بقوانين (اللسان) عن طريق ملكة (اللغة).
* س: من أي ناحية يُدرس اللسان؟
* ج: يُدرس اللسان من أبعاده الثلاثة، و هي البعد الصوتي و البعد الدلالي و البعد التركيبي، أما البعد الصوتي فيخصّ تتابع الأصوات و ترتيبها حسب قوانين اللسان المعيّن، بينما يتعلق البعد الدلالي بالمعاني أو ما يسمى بالأفكار أو المفاهيم، و يتمثل البعد التركيبي في تلك العلاقات الوظيفية التي تحدد طبيعة التراكيب اللسانية.
* س: هل تٌدرس هذه الأبعاد في آنٍ واحد؟
* ج: لكل بعد من هذه الأبعاد علاقة بالبُعدين الآخرين، و لا يمكن الفصل بينهم كليا، لكن الدراسات اللسانية حدّدت لكل بعد علما جزئيا خاصا به.
* س: ما هي هذه العلوم الجزئية؟
* ج: تتمثل هذه العلوم في: الصوتيات (علم الأصوات العام و علم الأصوات الوظيفي)؛ و هو علم يهتم بالبنية الصوتية. ثمّ علم الدلالة الذي يهتم بالبنية الدلالية، و يليه علم التراكيب (النحو و الصرف) الذي يهتم بالبنية التركيبية.
* س: من هو العالم الذي اكتشف كل ذلك؟
* ج: بالرغم من وجود دراسات لغوية قديمة في غاية الأهمية؛ كالدراسات الهندية و اليونانية و العربية، إلاّ أنّ الفضل في إعطاء هذا الطابع الجديد لعلوم اللغة يعود إلى العالم السويسري "فارديناند دو سوسير"، الذي وضع قطيعة إبستيمولوجية بين الدراسات القديمة و الدراسات الحديثة التي سماها (لسانيات).
* س: هل تستند اللسانيات على علوم أخرى؟
* ج: بالطبع، تستعين اللسانيات بعلوم كثيرة، أذكر منها، التعليمية و علم النفس و علم الاجتماع و الأنثروبولوجيا و الجغرافيا... و نجم عن هذا الاحتكاك ما يسمى باللسانيات التطبيقية و علم النفس اللساني و علم الاجتماع اللساني و اللسانيات الأنثروبولوجية و الجغرافيا اللسانية...
* س: نعود إلى اللسان لنتسائل: هل يمكن تحديد محتوى اللسان ككل و دراسته باعتباره مجموعة هائلة؟
* ج: لا، لا يمكن تحديد محتوى اللسان، فهو مجموعة غير منتهية من الوحدات.
* س: ما هي تلك الوحدات؟ هل لها تسمية؟
* ج: بالطبع لها تسمية، فهي أساس الدراسة اللسانية، تماما مثل المسافة التي تقاس بالسنتيمتر و الكتلة التي تقاس بالغرام... اللسان وحدته هي العلامة اللسانية (حسب دوسوسير و كل من جاء بعده).
* س: كيف نلمس هذه العلامة، و ما هي؟
* ج: هذا سهل جدا، الأمر يشبه نوعا ما المصطلح التقليدي "كلمة" مع التحفظ طبعا، ذلك أنّ دوسوسير لا يحبذ هذا التشبيه، لأنّ مصطلح كلمة قاصر، بينما مصطلح علامة لسانية فهو الأمثل، لأنّه يدل على شيئين هما وجها العلامة (دال/مدلول)، اللذان لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض، تماما مثل القطعة النقدية أو الورقة اللتان لا يمكن فصل وجهيهما عن بعضهما البعض (حسب رأي دوسوسير). أمّا الدال فهو الصورة السمعية للعلامة اللسانية (ما نسمعه)، بينما يمثل المدلول المفهوم أو الفكرة التي تنطبع في الذهن بعد سماع الصورة السمعية للعلامة.
منقول