تفسير لوحة البائسون عند شاطئ البحر , بيكاسو

تعتبر لوحة «البائسون عند شاطئ البحر» لبيكاسو، واحدة من أولى اللوحات التي رسمها ولا تزال موجودة حتى اليوم تشكل جزءاً أساسياً من تاريخه. وبيكاسو كان في الثانية والعشرين من عمره في تلك اللوحة التي ستعتبر ركيزة أساسية من ركائز ما سمي بـ «المرحلة الزرقاء» لديه. قبلها كان ذلك الشاب الإسباني المتمرّد، قد حقق رسوماً عدة منها ما أتى بورتريهات ذاتية، ومنها ما كان مجرد محاكاة لمدارس فنية كانت على الموضة. أما «المرحلة الزرقاء» فهي تشكل مرحلته الباريسية الحقيقية الأولى، حيث انه كان توجّه إلى العاصمة الفرنسية، محط أنظار فناني العالم في ذلك الحين، في العام 1900 واختلط بالأوساط الأدبية والفنية وبدأ يكوّن لنفسه مكانة ستكبر لاحقاً في شكل تدريجي. غير ان تحقق ذلك «الحلم الباريسي» بالنسبة إليه لن يبعده عن رسم الفقراء والبائسين، الى جانب لوحاته التي راح – على خطى تولوز لوتريك – يصور بها الحياة الباريسية (ومن أشهرها في تلك الآونة «شاربة الأبسنت» – 1901 – التي كانت اللوحة الممهدة حقاً للمرحلة الزرقاء). أما لوحة «البائسون عند شاطئ البحر»، فإنه رسمها بعد عامين حين كان في برشلونة، حيث انكب، لسبب ما، على رسم 14 لوحة يمت معظمها بصلة الى المرحلة الزرقاء، لكنها جميعاً تصور شظف العيش والفقراء والمصابين. لاحقاً خلال الأعوام القليلة التالية ستخف في لوحاته، ولا سيّما بعد عودته مجدداً إلى باريس، هيمنة اللون الأزرق... ولئن بقي البؤس والحزن مخيمين على الوجوه في اللوحات الجديدة، فإن ما يلفت النظر حقاً هو انحصار هذه السمات في الوجوه فقط، مقارنة مع هيمنة البؤس على لوحات برشلونة ككل. وإذا كنا نتوقف هنا عند لوحة «البائسون عند شاطئ البحر»، فما هذا إلا لأنها الأكثر دلالة وعمقاً على تلك المرحلة، لوناً وتكويناً وشخصيات.

> والحال انه قبل الحديث عن هذه اللوحة لا بأس من إشارة إلى أن بدء المرحلة الزرقاء في فن بيكاسو، إنما تزامن مع انتحار صديقه وزميله كازاغيماس في العام 1901... ومن هنا، إذا كان بيكاسو قد استنكف في تلك المرحلة عن معالجة موضوعة الموت في لوحاته في شكل مباشر، فإن طغيان اللون الأزرق كان إشارة – واضحة – إلى ما ينتجه الموت: عزلة وحزن ووحشة وافتقار إلى الحنان... وهي كلها مشاعر – وموضوعات أيضاً – من المؤكد ان من ينظر إلى لوحة «البائسون عند شاطئ البحر» يحس بها على الفور، بل تتملكه وتزيد عيشه بؤساً. إنها لوحة تعبر عن هذا بوضوح. فما الذي لدينا في هذه اللوحة التي من المفروض «نظرياً» أن يكون راسمها، في عز شبابه وفرحه بالحياة؟

> لدينا عائلة مؤلفة من ثلاثة أشخاص هم أب وأم وابنهما من دون ريب. الثلاثة واقفون معاً، وفي مكان واحد، غير ان من الواضح ان كلاً منهم موجود بمفرده، معزولاً عن الآخرين، ما يجعلهم يبدون أشخاصاً من دون حياة، مثل تماثيل جامدة وضعها النحات معاً، من دون قصد، في مكان ما على أمل أن يستعيدها لاحقاً. وليس ثمة في أفق هذا المكان الحزين والمعزول بدوره ما يترك بارقة أمل: ليس ثمة فيه ما يوحي بأن هذه العزلة المثلثة ستنتهي عما قريب. غير ان هذا الشعور الذي تبعته اللوحة على الفور يجب ألا يغيّب عن ناظرينا ان الفتى في اللوحة، يقف مستقيم الرأس، على عكس أبويه اللذين تطأطئان رأسيهما في إشارة إلى نهاية بائسة محتومة. ان ثمة شيئاً، ولو ضئيلاً من الأمل والتطلع، في وقفة الفتى، ناهيك، بأن يديه، في وسط الجمود التام وغياب كل أمارة على الحياة، تقومان بحركة ما. وواضح هنا، لمن يتأمل بتمعن، أن هذه الحركة تبدو واعدة على رغم أن نظرة الفتى شديدة الكآبة والسوداوية. من الواضح ان ثمة صراعاً عنيفاً هنا، داخل الفتى على الأقل، بين واقع يكاد يكون من دون مخرج، وتطلع يكاد يقول انه لا بد من العثور على حل. ولنضف إلى هذا ما يلاحظه الناقد الألماني انغو والتر، الذي أصدر، قبل فترة، كتاباً تحليلياً جديداً عن المضمون في فن بيكاسو، من ان الشخصيات الثلاث مصورة وهي في ثياب سميكة تبدو أقرب إلى الملجأ الذي تنطوي في داخله الشخصيات الثلاث. ومع هذا تعطي اللوحة، ولا سيما علاقة الشخصيات بهذه الثياب، بأن الشخصيات عارية تحاول في جمودها أن تداري عريها. والعري هنا ليس جسدياً فقط، بل هو – خصوصاً – عري روحي... البؤس عار تماماً هنا.

> ترى هل يمكننا هنا ان نوافق أولئك النقاد الذين حللوا علاقة بيكاسو بمثل لوحاته هذه، في تلك المرحلة من حياته، واصلين إلى استنتاجات – منطقية على أية حال – تقول ان الفنان الشاب، إنما عبر في مثل هذه اللوحات «البؤسوية» عن واقعه الذي كان يشاطر فيه وحدة شخصياته وبؤسها؟ بكلمات أخرى، هل يمكن القول ان مثل هذه اللوحات يمكن أيضاً أن تُفهم على أساس انها جزء من سيرة ذاتية – مواربة أو غير مواربة – للفنان؟ كثر من النقاد، ومن دارسي فن بيكاسو، يؤكدون هذا مفسرين ان تلك المرحلة الزرقاء ذات الأبعاد الكئيبة، لوناً وتركيباً، إنما هي معبرة أولاً وأخيراً عن الصعوبات التي كان بابلو بيكاسو، يواجهها في تلك المرحلة المبكرة من حياته وفي مساره المهني. إذ انه في ذلك الحين، كان يشعر بوحدة مرعبة، وبانسداد الآفاق أمامه. كان توجه إلى باريس ليعيش فيها ثلاث مرات من دون أن ينجح في إيجاد مكان ومكانة لنفسه. كان لا يزال يتخبط للعثور على اسلوبه الفني الخاص. كان ممزقاً بين إسبانيا وفرنسا. بين باريس وبرشلونة ومدريد. وكان يبحث عن حب لا يجده وحنان يفتقر اليه. وكان انتحار صديقه كازاغيماس، نتيجة لحكاية حب أخفقت، يقض مضاجعه بقوة. ومن هنا، انطلاقاً من هذا كله، قد يكون من الصعب القول ان لوحات المرحلة الزرقاء المبكرة هذه، ولا سيما منها تلك التي رسمها في برشلونة، يمكن النظر اليها على أساس انها تعبير عن واقع موضوعي رصده الفنان وأراد أن يعبر عنه. على العكس، هي – في نهاية الأمر – لوحات تعبر عن «واقع داخلي»، عن «جوانية الشاب بيكاسو»، وقد أدرك ان الفن يمكن أن يكون تعويذة، «كاتارسيس» تخرج من داخله ضروب الحزن والكآبة لترميها على اللوحة. فهل يعني هذا، بالتالي، أن العملية نجحت؟ ربما يكون في وسعنا أن نرد هنا على هذا السؤال بالايجاب. وذلك انطلاقاً، ليس من تحليل نظري للوحات، بل من رصد فصول حياة بيكاسو نفسه: فهو بعد مرحلة برشلونة تلك، حزم حقائبه مرة جديدة في حياته وعاد إلى باريس. وهو في هذه المرة استقر في شكل نهائي، بل صار لديه محترف ظل يشغله (13 شارع رافينيان) خمس سنوات متتالية، كما انه من فوره تعرف إلى فرناند اوليفييه، فاتنته الاولى التي ستعيش في رفقته سبع سنوات... وهو إذ أعاد هنا، في تلك المرحلة الجديدة من حياته، اكتشاف السيرك، بصفته موضوعاً للرسم، بدأ برسم لوحات مستوحاة من حياة ذلك السيرك وفنونه وشخصياته. صحيح هنا انه في اللوحات الأولى التي رسمها للسيرك، أبقى على عنصر الحزن والكآبة جزءاً من المناخ العام للوحة، لكن جو اللوحات اختلف كلياً عن جو لوحات المرحلة الزرقاء. لم يعد البؤس معمماً. ولم تعد الشخصيات وحيدة. وتضاءلت حدة الصراع بين الواقع والطموح. صارت بعيدة، إذاً، كل تلك الأبعاد التي فيها عبر بيكاسو عن جوانيته وعزلته في أقوى لوحات المرحلة الزرقاء.

> نعرف طبعاً ان بابلو بيكاسو (1881 – 1973)، الفنان الاسباني الأصل، الفرنسي الإقامة والنشاط، والذي خيم فنه على القرن العشرين كله، كانت له لاحقاً مراحل تالية، وردية ثم تكعيبية، فسوريالية ففوضوية. وانه عاش حياة صاخبة، أوصل فيها الفن التشكيلي، وعلى صعيد العالم كله، إلى أعلى درجات الشعبية، وخاض معترك السياسة خاضعاً لها حيناً، مخضعاً إياها حيناً آخر... لكن ذلك كله بدأ، من خلال حزن عميق، هو حزن إسباني عام على أية حال، عبر عنه فنان القرن العشرين في تلك اللوحات التي ما برحت تدهش الناس إذ يكتشفون انه حتى بيكاسو صاخب القرن العشرين ومهرجه، بدأ وحيداً مكسوراً يبحث عن طريق.

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

موضوع: رد: تفسير لوحة البائسون 3/17/2012, 16:04

شكرا للأخ عثمان لهذا الموضوع ذكر هذه المعلومات عن هؤلاء الرسامين في حالاتهم المختلفة.

موضوع قيم حقا شكرا لك

» الرسم على الشاطئ - إبداع فنان تشكيلي على شاطئ البحر ,شيء مذهل ..
» لوحة فنية للرسام العالمى بيكاسو بعنوان "سيدات الجزائر" تباع بملغ خيالى قارب 180 مليون دولار
» تفسير لوحة الرسالة لفيرمير
» من روائع بيكاسو
» بابلو بيكاسو Pablo picasso