أسرارُ الشُّعْلَةِ الزَّرْقاءِ بينَ جُبْران ومَيْ...
أثارتْ أختُنا المبدعة ذكرياتُ نفَسًا إبداعيًّا وفنيًّا،حَرِيٌّ به أن يفتَحَ في قرائحنا مجالاً واسعاً من إثراءٍ ويَمُدَّ فينا فضاءً أرحبَ من كتابةٍ وفضفضةٍ وجمالٍ...
أعني ما بدأتْهُ في عَرْضِ ( نماذج من الرسائل البديعة التي تبادَلَها الأديبان الكبيران جبران خليل جبران ومَي زيادة )...
ونحن قد أشرنا-في تعليقٍ لنا-أن هذه الرسائل الرائقة قد جُمِعَتْ تحت عنوانٍ مُلْفِتٍ هو ( الشعلة الزرقاء )...ولهذا العنوانِ دِلاَلَتُهُ الرمزيةُ والفنيةُ والإيحائيةُ...
وأحبُّ هنا أن أساوقَ أختي ذكريات بهذه الرؤيةِ الأدبيةِ التي طالما عنَّتْ لي حول الأسرار الحقيقيةِ لهذه الرسائل،وحولَ خَفِيَّةِ القرابةِ الوجدانيةِ الخالدة التي جمعتْ بين قلبيْ الأديبين الكبيرين...
بدايةً..دائماً أومن أن الكاتبَ الحقيقي،هو ذاكَ الذي نجد شجْوَ لواعجه في خوافقنا،ونجد جذوة َآهاته في حلوقنا،ونجدُ زفراتِ قلبه المشويِّ في خلجاتنا....
بيني وبين نفسي،أردد دائما كلمات الأستاذ الشهيد سيد قطب رحمه الله : …(( إن كلماتنا وحروفنا تظل ميتة أعراساً من الشمع لا حِراكَ فيها،حتى إذا غذيناها بمشاعرنا ونبضات قلوبنا،أو متنا في سبيلها،انتفضتْ حية ًوعاشتْ بين الأحياء...))...
وهذا-وايمُ اللهِ-صحيح...لأن كل كلمةِ،وُلِدتْ جوفاءَ،بليدة،ماتتْ في رحِمِها،قبل أن ترى النورَ والحياة في عين القارئ...
وُلِدَتْ ميتة ً،وعاشتْ بين الناس ميتة ً،لأن الناس لا يتبنونَ-بداهة ً-لا يتبنوْنَ الأمـوات...!!!
السرُّ في أنَّ جبران خليل جبران،امتدتْ كلماتُه التي خلدها في آثاره،فاسْتَكَنَّتْ كُلَّ قلبٍ،ذاق عذوبة الحياة في شرايين الحرف العربي،هُـوَ أنَّ جبران-ببساطةٍ-استطاع بحسِّه الفني الخارق أن يضخَّ إكسيرَ الخصوبةِ والنماء في كتاباته الغزيرة،فتنفسَ الحرفُ من قلمه المِعطاء ما جعله يقاوم تآكل الحروف عادة ً،حين يعتريها التقادُم،ويعلوها الصدأ والنسيان...!!
الأجنحة المتكسرة،التي هِيضتْ ، فأدمى الحبُّ قلبَ فارسٍ،لأن منجل الزمن القاسي-قساوة صفيح الثلج والجليد الذي تغشى الطبيعة في كامل التراجيديا الرائعة-قد أحال سلمى كرامة في حِس جبران إلى نعْيٍ،حزين،يرى شيئاً من آماله القريحة في إيهابها الشاحب...!!
الأجنحة المتكسرة هنا..هي الدمعة والابتسامة هناك...هي العواصف والمواكب وعرائس المروج هنالك...هي الرمل والزبد والموسيقى في معبد بعْلبَكْ الرهيب...!!
كلها،كلها،ترجيعٌ لجمال الحزن الجميل الذى غذاه جبران من ملكتِه الفذة،وموهبته الأدبية الكتابية النادرة،فتسربتِ الحياة في حروفه،فكُتِبَ لها البقاءُ والديمومة والاستمرارية...
ومَـــيْ....أو ماري إلياس زيادة...
تلكَ الأيقونة التليدة التي فجرتْ في شاعريةِ جبران ما كانتِ الأيام تخفيه في خزانته العاطفية العزيزة المَنال...!!!
لطالما ذبنا معها..وخفقتْ خوافِقُنا لأعمالها الوجدانية التليدة...كتاب المساواة...باحثة البادية....سوانح فتاة...الصحائف...كلمات وإشارات....غاية الحياة....رجوع الموجة....بين الجزر والمد....الحب في العذاب....إبتسامات ودموع....ظلمات وأشعة....وردة اليازجي...عائشة تيمور....نعم ديوان الحب...وعشرات العشرات من المقالات النقديةِ واللغوية والأدبية...
كان لميْ صالونٌ أدبيٌّ في القاهرة...وكانتْ مشاعرُ كثير من أدبائنا الكبار،تتقاطرُ في عقولهم الباطنة،كُلٌّ منهم يريد أن يتموْقعَ في بُرج مَّا من صالون الآنسة...واهتمام الآنسة...وعقل الآنسة...و...وقلب الآنســة...!!
الأستاذ العقاد وما أدراك ما العقاد..بعنفوانه وقامته وصلابة طبيعته؟؟!!!...الدكتور طه حسين بأريحيته الأدبية التي تقوم على أسس من هدوء الطرح وفيْقهة الحرف...الأستاذ الرافعي بعنانه البلاغي واللغوي الفريد الذي جعل من قلمه في الإعجاز اللفظي والبياني والبديعي وَحْياً،فلا نستغرب إن سَمَّى رصيدَه الشامخَ ( وَحْـيَ القلم )...حتى عبد الرحمان شكري وإبراهيم عبد القادر المازني،كانتْ إيحاءاتـُهما،تكشف عن إعجاب وانبهار محتشميْن،يخفيان وراءَهما شعوراً مَّا نحو الآنسة المتألقة...
بيْدَ أن جبران خليل جبران-ومع كوْن هؤلاءِ الأقمار الأدباء قريبين بشخوصهم وحضورهم من صالون الآنسة في القاهرة،وهو هناك بعيدٌ جِدًّا في الساحل الغربي للولايات المتحدة-هوَ فقط مَنْ جرفَ هؤلاء بعيداً عن منطقةِ العاطفة في قلب الآنسة مَيْ،بل وألزمهم أن يقفوا خلف الباب المُسَيَّجِ،فلم يدخلْ أحدٌ غيرَه في الحقيقة...بَلْهَ ما كان أحدٌ ليَجرؤَ أبداً...!!!
لقد كانتْ بين الأستاذ العقاد والآنسة مَيْ مراسلاتٍ ومراسلات،مذ كان يترددُ بين القاهرةِ و أسوان وكانتْ هي قد بدأتْ في التألق والتصدُّر الأدبي بعدَ فترةٍ وجيزةٍ مِنِ استقرارِها في قاهرةِ المُعِزِّ...ورسائلهُمَا-لمن أرادَ الاطلاَّعَ-موجودةٌ ومطبوعةٌ،وقد قدَّمَها الأستاذُ الكبيرُ أنيس منصور-وهو من أجَلِّ تلامذةِ العقادِ ومحبيه-في تحفته الأدبية الرائعة ( في صالون العقاد كانت لنا أيام... )..قدَّمَها لنا صُوَراً طِبْقَ الأصل بخط الأستاذ العقاد شخصيًّا....
وكانت بين الأستاذ محمد مصطفى صادق الرافعي والآنسة مَيْ مراسلاتٍ ومراسلاتٍ،وهي موجودة في ( رسائل الأحزان ) و ( أوراق الورد )..وملحَقٌ منها في ( السحاب الأحمر )..وإشاراتٌ تلميحية ٌلها في( وحي القلم)....
وبشكل مَّا كانت بين الدكتور طَـهَ والآنسة مي تواصلاتٌ،أخذتْ في البداية شكلَ النقد الأدبي الأكاديمي البحت في قضايا الجِـدَّة والقِدَمِ ودوْرهما في تفعيل الأدب العربي وترقيته..لكن سرعان ما تطورتْ إلى لمساتٍ فنيةٍ،تنضح بالإعجاب الذي يُشبه الوَله المحتشَم...!!!
حتى الأستاذ المازني كتب لها،مستعيضاً عن مسحة الكاريكاتورية التي اتسم بها عادة...!!!
وغيرهم أيضاً تواصلوا وكتبوا.....
لكنْ كانتْ رسائلُ هؤلاء-أمام قلب مَـيْ-في كُـومٍ...ورسائل جبران في كُوم آخــر... !!!
لقد كنتُ أبحث دائماً عن السبب الرئيس الذي جعلَ الآنسة ميْ-بهالها وهيلمانها العلمي والأدبي والثقافي،إذ كانتْ طفرة ًفريدة ًفي مجال السقف الثقافي مقارنة ًمع بناتِ جيلها كنازلي فاضل وأمينة سعيد وهدى هانم شعراوي،ويكفي أن نعرف أنها كانت تتقن سبعَ لغاتٍ عالمية ً،نطقاً وكتابة ًوتعامُلاً-كنت أبحث عن السر الخفي الذي جعل جبران يستفرد من الجولة الأولى بقلبها ومشاعرها حتى كشفتْ له ذات مرة أنها لمْ ترَ في دنيا الكتابة سواه،ومن أنها وُلدتْ منذ اللحظة التي قرأتْ فيها عرائسَ مروجه..؟؟؟!!!
ورأيتني سرعان ما لمْ تـُعْوِزْني الإجابةُ...!!!
لقد كان السلطان العقلي في أدب معظم أولئك الأدباء،هو الحادي في الحقيقة إلى كتاباتهم جميعاً،حتى ولو كانتْ كتاباتٍ ذاتيةٍ،تتسم بالرقة والسلاسة والترقيق....
أنا قرأت رسائل الأستاذ العقاد لمي....وقرأت رسائل جبران لمي...ولعلي سأكشف عن بعضها لاحقاً إن شاء الله...ورحتُ أراقبُ بحثاً عن الحلقة المفقودة بين أوصال العبارات والمعاني هنا وهناك..ما الذي يثير انتباه القارئ الجاد..؟؟؟
سنكتشف عند الوهلة الأولى أن في رسائل الأستاذ العقاد شيئاً من جبروت شخصيته القوية الفذة التي تتسم بالجزالة والفخامة وعُمق الطرح وانتقاء اللفظ بعنايةِ،ناهيكمْ عن عقلَنتِهِ لأيةِ فِكرةٍ ولو كانتْ نفثَةً وجدانيةً...
إنه العقادُ الذي نعرف...!!!
رسائله-وإن كانتْ تحمل في ظاهر العين رقة ًتسيلُ باللطف واللطافة،إلا أنها في الحقيقةِ-أشبهُ بالمحاكمة العقلية التي تُبَرِّرُ كُلَّ شيءٍ للآنسة مَيْ تبريراً استقرائيا،يُفضي إلى نتائجَ معينةٍ..ويبدو لي أن الآنسة ميْ قد تجاوبتْ معه،وذهبتْ معهُ في التجاوُبِ إلى أبْعَدِ نقطةٍ،لكنها لم تكن ترى فيه غيْرَ الأبُوَّةِ الأدبية والمظلة الأكاديمية التي تتعلم منها وتستقي لنهَمِها العلمي والمَعرفي والثقافي...
بينما جبران عرفَ بذكائه الشاعري وحَدَسِهِ الوجداني الغويط كيف يتسلل بالرقائق من باب العقلانية،من غير أن يسمح لعقلانياته أن تتواجدَ في باحة الوجدان أو تُثْقِلُ عليها..أو على الأقل تطفو على حساب نبضات قلبه في السطح...!!!
وأتفقُ تماماً مع أستاذنا فاروق شوشة،في بحثه الأخير عن السبعة الأدباء النجوم،حين أشارَ-وهو يتحدث عن ديوان وحي الأربعين للعقاد-من أن الأديب،سواءٌ كان شاعراً أو ناثراً،لن يبقى له من آثار في مستقبله بين الأجيال ما عدا آثاره العاطفية..لأن الجانب المعرفي،الأكاديمي مرهونٌ بالتغيُّر والتبدل،والذي سيبقى في إرث الأستاذ العملاق عباس محمود العقاد-والرأي للأستاذ فاروق- هو شعرُهُ الخالد وعاطفياته لا دراساته النقدية والأكاديمية العقلية الهادرة...
جبران خليل جبران كانَ أسرَعَ بقلمِه الرومانسي إلى تسبيكِ عاطفةِ مَيْ بالألَقِ الجميل الصافي الذي تبحثُ عنه المرأةُ،لكنهُ فعلَ ذلكَ من دون أن يُخرِجَ تلكَ العاطفةِ من دائرةِ المكاسبِ والمكانةِ الأدبيةِ الرائدةِ التي تبوَّأَتْها مَيْ..!!!
بمعنى..أنه أحبَّها بجنون وولَهٍ وتسهيدٍ..وراحَ يُسرِّبُ هذا الحبَّ العنيفَ ويسكبُهُ بأجمل ما في أبجدياتِ الحب اللاهب من لواعِجَ في غيْر أن يكونَ عاملاً ضاغطاً على واقعِ مَيْ كأديبةٍ كبيرةٍ،يجبُ أن يُحتَفى بها،ويَجبُ أن يستمرَّ صالونُها الذي لا يَقِلُّ زخَماً من صالون الأستاذِ العقادِ نفسِهِ..!!!
لقد كانَ الآخرونَ يدورونَ حولها،ولكنهمْ بمسافةٍ معينةٍ من الاقترابِ،تمنعُ من التصريح بغيْر التلميح..أما جبران فقد كانَ يقتربُ وهو يدري كيفَ يقتربُ،تاركاً لمدارِ الصلةِ أن يُحددَ مسارَ الاقتراب دونما تلميحٌ صُرَاحٌ حتى..فالمدارُ-في الحقيقةِ-هوَ ما أعفى جبرانُ من تلميحه الذي استوعبَتْهُ عاطفةُ مَيْ في غيْر إحراجٍ لمكانتها المعنويةِ والأدبية..وبهذا كان الآخرونَ بالنسبةِ لوجدانياتِ الآنسةِ وقوداً دافعاً لها للالتهاب..أما جبران فقد عرفَ كيفَ يكونُ اللهيبَ ذاتَهُ...!!!
في تقديري...هذا كانَ سِرًّا جميلاً بديعاً من أسرار الإضاءة والإشعاعِ في جذوةِ تلكَ ( الشعلةِ الزرقاءِ ) الخالدة...
منقول