في ذكرى وفاة الشاعر نزار قباني وعودته إلى الأوديبية نتذكر أبا توفيق يرثي إبنه فيقول : ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً وأنت غائب ... وينتقل إلى سيارة ابنه ليناجيها في نكوص شعري جامح يذكرنا بوقوف الشاعر الجاهلي على الأطلال !!
في هذه الذكرى تلوح لنا معالم قصائده ودواوينه بديلة لسيارة ابنه . فهل نقف على أطلالها ؟ أو نترك ذلك لجيل تعلم الحب على يديه أو نسخ عشقه أغاني يرددها المطربون ؟ وبغض النظر عما يفعله هؤلاء وأولئك ، أليس حرياً بنا السؤال عما أمسى عليه شعره بعد وفاته ، نشعر نزار كان مرتبطاً بشخصه بصورة عضوية وهو خسر كثيراً بوفاة الشاعر .
إلى هذه الخسارة تضاف خسائر أخرى أبرزها أن مجمل الأعمال الإبداعية لا تملك ذات مستوى الحصانة تجاه الزمن . فقصائد الشاعر نفسه تتفاوت في مستواها الإبداعي وفي حدثيتها وقدرتها على الاستمرار . ولا شك في أن قصائد نزار المغناة تكتسب زاداً إضافياً يدعم استمراريتها ولكن هل يقتصر إبداع نزار على الغزل وهل يقنع بعد وفاته ببقائه شاعر المرأة . وهو لقب اكتسبه لدوافع سيكولوجية أكثر منها إبداعية فقصائده الغزلية تتضمن رصداً لسيكولوجية المرأة ودراسة معمقة لأحاسيسها ومعايشة لأفكار حميميتها. وهذا الطابع السيكولوجي يضفي على غزليات نزار صفة القدرة على اجتياز عواطف المرأة وتشجيع اسقاطاتها لتصبح هي الحبيبة أو لتتمنى أن تكونها . إلا أن قباني لم يهرب إلى ضوء الشموع إلا بعد أن أحرقه ضوء الشمس فهو تعاطى السياسة في حياته وفي شعره حتى اليأس . وهو لم يلجأ إلى المرأة إلا كملاذ وكلحظة كان يود أن يجمد الزمن عندها . فلحظة المرأة في شعر نزار هي لحظة تمرد أرادها نزار خارج الزمن المعيوش فأحوال الأمة لا تسر ومستقبلها ينذر بالأسوأ ومثقفوها موزعون بين عضوية ناقصة في حاشية السلطة وبين فقر الخروج من دائرة السلطة والعمل على رضائها ، وبين باحثين عن الحلول لأوضاع أمتهم واقعين في فخ البحث عن حلول لأزماتهم الشخصية متورطين في اتجاهات بعضها يبدو مأمونا وبعضها لايبدو كذلك .لكن أحداً لا يعرف إذا كان ظاهر هذه الإتجاهات يعكس خلفياتها ؟ وربما كان هذا الغموض هو دافع نزار قباني للهجرة إلى عالم المرأة .
لكن المهاجر كان يعود من مهجره إلى موطنه في الأحداث المفصلية وغصة في حلقه . إن هذه الأحداث كانت كلها مأسوية .. فانتجت بكائيات .. ويوم وفاة عبد الناصر عاد من مهجره ليبكي الزعيم وكانت عودته أوديبية في هذه المرة ...
إذ يعود أوديب ليفقأ عينيه إنتقاما من ذاته قاتلة الأب إنه محور مسرحية أوديب ملكاً ومرتكز العقدة الأوديبية الذي بنى عليه فرويد نظريته في التحليل النفسي حيث يؤكد فرويد بأن مأساة أوديب حاضرة دائماً في اللاشعور . ويأتي يونغ ليؤكد حضورها في اللا شعور الجمعي . فرغبة الطفل باختفاء الأب والاختفاء معادل للموت في وعي الطفل تعادلها رغبة المثقف بالتمرد على السلطة . لكن المأساة تجتاح الشعور وتحتله وتشل اللاشعور وعناصره .. فالشعور بالخسارة ينسينا مكاسب المرض ويدفعنا لمواجهة واقع قاس وطاغ وغير ممكن التجنب .
لقد مات الزعيم فجأة من دون أن يترك لنا فرصة القلق على صحته ، أو تصور كارثتنا من دونه ، أو تخيل الفراغ ومن يملؤه لقد مات الزعيم فعاد أبناؤه الضالون يمزقون عيونهم في جنازته ومن بينهم صرخ ابن شديد الضلالة وعميق الابحار في بحور النساء صرخ نزار قباني : " قتلناك يا آخر الأنبياء " .
وهذا الضليل المصدوم هو ابن بيت دمشقي عريق ومحافظ . وفي ذاكرة نزار مشاهد من طفولته تترجم هذه المحافظة المألوفة تزمتاً . وصدمته الأولى كانت وفاة أخته ، فجاءت صدمة وفاة الزعيم لتحرك كوامن الصدمة القديمة ولتريح نزار من عبء كان يحمله على صدره وينغص عليه سعادته وتوازنه . فالزعيم هو رمز السلطة بالنسبة للبالغ أما رمزها لدى الطفل فهو الأب وهذا ما يجعل الزعيم بديلاً للأب . فإذا كانت الصورة الهوامية للأب سيئة ( و هي حالتها لدى نزار الذي يحمّل أباه ذنب وفاة أخته المحبوبة ) فإن التوافق مع السلطة ومع الزعيم يتدنى بالتوازن مع سوء صورة الأب ويتبدى خفض هذا التوازن مع مدى سوء صورة الأب . ويتبدى خفض هذا التوافق عبر مواقف التمرد النرجسي . حيث معاكسة السلطة تبقى في حدود التمرد على بعض ثوابتها . فالتمرد النرجسي يمكنه أن يبلغ حدود الثورة . فهو يمثل الجانب غير الناضج من الشخصية ، وكان هذا الجانب عاطفياً لدى نزار الذي بقي عاشقاً مراهقاً حتى مماته.
لكن الصدمات والرضوض النفسية تؤدي إلى وقف سيرورة التمرد وإبدالها بسيرورة النكوص النرجسي أيضاً التي تفجر العواطف الإيجابية وتلغي رغبات التمرد . وبهذه الطريقة يقوم النكوص بإصلاح الصور الهوامية السيئة محولاً الموضوعات من سيئة ( بدرجات مختلفة ) إلى حسنة ( بدرجات مختلفة أيضاً ) .
لكن صدمة نزار بوفاة عبد الناصر لم تكن صدمة عادية أو محتملة . ونستدل على ذلك من خلال عنف عملية النكوص التي ترتبت عليها . فقد قاد النكوص بشاعرنا إلى بدايات العروبة وينابيعها الأولى ، فرأى أننا اعتدنا إيذاء ذاتنا واغتيال رموزنا منذ السنوات الأولى لحضارتنا العربية – الإسلامية .
ليس جديداً علينا
اغتيال الصحابة والأولياء
فكم من رسول قتلنا
وكم من إمام ..
ذبحناه وهو يصلي صلاة العشاء
فتاريخنا كله محنة
وأيامنا كلها كربلاء .
هكذا يراكم قباني فجائع الفقدان في تاريخنا بدءاً بسيدنا عمر عليه السلام مروراً بسيدنا الحسين عليه السلام وبالأئمة والصالحين وصولاً إلى عبد الناصر . حتى يبدو الأمر في ذهن الشاعر وكأنه فجيعة من فصول متعاقبة تبرر وتفسر خسائرنا التاريخية من الأندلس وحتى فلسطين .
وعلى غرار ما يجري في كافة الأحداث الصدمية نجد أن قباني يعاني مشاعر الذنب لدى الناجين من الكارثة ، فسجل مقطعاً من الاعترافات التي تبرئ الضحية وتذنب الناجين ( المقطع الثاني من القصيدة ) :
تركناك في شمس سيناء وحدك
أما المقطع الثالث من القصيدة فيخصصه نزار لمحاولة تعقيل الحدث الصدمي . وهذا التعقيل يتم عادة باسترجاع الملابسات والظروف التي تسببت بالصدمة في محاولة للإقتناع بأنها كانت النتيجة الطبيعية لهذه الملابسات والظروف . وهذا التعقيل يهدف في الغالب لمواجهة الميل إلى عدم تصديق الحدث . ومن هذا المقطع :
رميناك في نار عمان …. حتى احترقت
أريناك غدر العروبة حتى كفرت
ويتبدى الميل الأوديبي لفقء العينين ، بعد اكتشاف ارتكاب جريمة قتل الأب من دون معرفة في المقطع الرابع من القصيدة ومنه :
وكنت أبانا ..
وحين غسلنا يدينا …. اكتشفنا
بأننا قتلنا منانا
وبذلك نصل إلى المقطع الخامس والأخير من القصيدة وفيه يحاول قباني إظهار حزنه عله يستنفذه فيقوى على مواجهة الحدث بعد أن أقنع نفسه بتصديقه . وهكذا يظهر الشاعر عواطفه وراء الفقيد فيطلق العنان لمشاعر الحزن والخسارة والفقدان ويتحول إلى رثاء الراحل عبر انفعالات متداخلة تتكامل فيها وتتكثف كل أوليات وسيناريوات المقاطع السابقة حيث تتبدى آلية النكوص في قول الشاعر :
كل الأساطير ماتت ..
بموتك … وانتحرت شهرزاد .
أما مشاعر الذنب فيبديها نزار بقوله :
وهذا يريق الدموع عليك وخنجره ، تحت ثوب الحداد .
وهذا يجاهد في نومه …
وفي الصحو …
يبكي عليه الجهاد …
أما تعقيل كارثة الفقدان فيتبدى في الأبيات الأخيرة حيث يقول قباني :
أنادي عليك أبا خالد وأعرف أني أنادي بواد
وأعرف أنك لن تستجيب
وأن الخوارق ليست تعاد .
وتسلسل الآليات اللاشعورية بمثل هذا الإنتظام إنما يدل على صدق معاناة قباني وعلى الطابع الذاتي – الصدمي للحدث ذلك أن تعاقب النكوص والفجيعة ومشاعر الذنب والتعقيل والحزن الحاد بهذا الترتيب هو تعاقب لا شعوري وهو يقع خارج صنعة الشعر ومهاراتها . فهذا الترتيب هو عينه ما يسمى " التنظيم " بلغة التحليل النفسي وعملية مثل هذه لا يمكن للشخص ترتيبها حتى على محتوياته الشعورية من دون مساعدة محلل نفسي . أما عندما تنتظم محتويات اللاشعور وفق المبادئ الدقيقة للتنظيم ( بمفهومه التحليل – نفسي ) فإن ذلك لا يمكنه أن يأتي إلا عن طريق صدق العاطفة ، بما في هذا الصدق من خضوع لمبادئ التداعي الحر للأفكار والمشاعر وتحريرها من الرقابات على مختلف مستوياتها ولو أراد محلل ما تنظيم هذه المشاعر وفق المبادئ التحليلية فإنه سيجد نفسه مضطراً لإطلاقها من حيز اللاشعور إلى حيز الشعور قبل أن يحاول الشروع بتنظيمها .
لقد كان فقدان عبد الناصر صدمة قومية كبرى وقاسية لقد كان الحدث الذي حمل معه مرارة الفقدان وأيقظ تجاربه في الوجدان . وعند نزار وفي وجدانه حوادث الفقدان متراكمة وطاغية فمن انتحار أخته الحبيبة إلى موت ابنه . ورثائه له عبر سيارته التي ناجاها في قصيدة ذكرى مرور سنة على وفاة ابنه . عداك عن كوارث الفقدان المعنوية التي زادت صورة الأب- السلطة تشويهاً في وعي نزار حتى راح يهجوها ويهجوها إلى اللحظة . فماضي نزار مملوء بالصدمات والرضوض العاطفية ومستقبله خال من " أنا مثالية " . لذلك لم يبق أمامه سوى معانقة اللحظة . والحب أفضل رفيق لهذه المعانقة ، فالحبيبة تهرب من ماضيك لأنه قد يحمل ذكرى غيرها وتفضل أن تتخيل المستقبل على أنه مجرد استمرار للحظة . وإذا أردت تعويضاً نرجسياً فإن الحب يصبح هو الحدث فيكفيك مؤونة النكوص – التثبيت وبالتالي تفجير ألغام الماضي وأحزانه . كما هو يجنبك قلق المستقبل وهكذا فإن نزار لم يكن شاعر المرأة ، حتى وصفه بعض السوقة بالقواد لكنه كان شاعر اللحظة – الحدث . وفراغ لحظاته جعل من المرأة حدثه المفضل فراح يعرض معايشاته للحظاته بأسلوب اللحظة وهو أسلوب يفهمه معاصرو اللحظة بسهولة فائقة . لكنه يصبح أكثر صعوبة كلما ابتعدنا عن اللحظة . لذلك تجد أن اللحظة معذبة بدورها فهي غير مستقرة وأحداثها متمردة فهي سرعان ما تتحول إلى ماض في اللحظة التالية . لكن العيب الأكبر في اللحظة هو عبوديتها للحدث . فقد يهيأ لنا أننا قادرون على إلباس لحظتنا الثوب الذي يناسبنا وعندها نكون في غيبوبة تنسينا أننا ولدنا في لحظة ونموت في لحظة ونستفيق في لحظة . ولقد أفاق نزار في لحظة موت الزعيم فكانت هذه القصيدة ومن بعدها العجز عن الاستمرار في وهم صناعة اللحظة . والعجز استتبع تفجر قلق المستقبل . وبعد الزعيم بدا أن نزار يكرر نفسه وينمطها حتى الملل بل حتى وفاته .