عندما تصفحت« أنين المدينة»* ورأيت وقرأت الأسماء والقصص استوقفتني الصفحات من 45 إلى 49 ، وهي الصفحات التي حوت القصص الثلاث للقاص المتمكن نعيم المثردي، فنعيم يشدك بأسلوبه الذي يمتح من الشعر رغم عدم إضاعة خيوط القص .. وشعرية السرد عنده تنساب دون أن تكون متعمدة ، ذلك أن الذوق الرفيع الذي يتمتع به نعيم يجعله ينتقي عباراته وألفاظه من معجم خاص به ، ويزيد من إتقان صنعته قدرته على اختيار العنونة التي تدعوك للنص وتربطك به ، ثم التوقيع الأخير الذي يعزف عليه نهايته كضربة الريشة الأخيرة لفنان متقن يختم بها لوحته.
«الضفة الأخرى».. «المحرقة» .. «السجن» .. هي عناوين القصص الثلاثة التي توصلك لأسلوب نعيم ونفسيته.. ورغم اختلافها في الموضوع ، إلا أنها ترتبط بخيط رفيع تجعلها تشير دون مواربة لأبوة نعيم لها..
في «الضفة الأخرى» يعبر بنا نعيم إلى عالم الحرقة وهي فكرة أصبحت متداولة في عالم الأدب ، حيث الحرقة ظاهرة اجتماعية اجتاحت وطننا العربي وخاصة الشمال الإفريقي منه ، تكاد تبتذل الآن في النص الأدبي عندنا ، لكنها هنا بسحر الأسلوب تصبح نوع جمالي بحد ذاته ..
ونعيم هنا عبر أسلوبه الشعري وطريقة الوصف والسرد التي تسبر غور الحراق يدخلنا عالمه المؤلم ، هذا الشاب الذي سدت في وجهه الأبواب ، ولم يبق له سوى البحر صاحبا وسميرا ، وغير الحشيش عالما يمضي به حيث يريد ولا يريد .. في صور رائعة غير مألوفة للحشيشة يصورها لنا القاص من مثل قوله : «تفتتها في لفافة تبغ لتغدو كفنا كالذي يلف أمانيك كل صباح ، تشعل الكفن الصغيرة تسحب أنفاسه المحترقة على جبال صدرك القاحلة لتنعش فيه سراب الأمنيات.. »(ص 45)
ثم يمضي بنا نعيم في حلم المسطول بشكل محبب رائع حيث تتحول المنارة إلى امرأة هيفاء .. وفي هذا الجو تداهم الدورية الشاب ، وفي كلمات قليلة مركزة يصور لنا القاص ما يجري في المخفر ، وكانت الأسئلة متوقعة مع ما يصاحبها ، لكن الجميل هنا في النص الإجابة التي خرجت من فم المسطول التي كانت لذيذة ومحببة تجعلنا – رغم كل شيء- نتعاطف معه ، يقول : «كنت أنتظر أن تحدث المعجزة ..أن ينشق البحر إلى نصفين كي يمكنني ساعتها أن أركض عابر للضفة الأخرى حيث جنات النعيم »(ص 46) وهو حلم كل شاب الآن للأسف بعد أن أضحى بلا وظيفة ولا سكن ولا زوجة وهو الذي قضى سنوات عمره في التعليم ليتخرج بشهادة لا تساوي الورق الذي كتبت عليه !!
لنبلغ النهاية غير المتوقعة التي لا يمكن أن تكون إلا عندنا نحن العرب ، أن يعطي رجل الشرطة للشاب رقم هاتفه ، ويترجاه كي يتصل به حين يحقق حلمه.
أما «المحرقة» فقصة طريفة طرافة واقعنا العربي ، عندما يكرم الشعراء – في بعض الأماكن عندنا – بفرن للطبخ ، أو بطقم فناجين ونجد عليه ثمنه !! وقد صاغها نعيم وهو الذي عاش مثل هذه الجوائز ، كابن شاعر كبير هو الأستاذ السعيد المثردي ، صاغها بطريقة بارعة وبتمكن يفوق الوصف ، «المحرقة» قصة تحمل معاني الألم لما يعيشه المثقف والأديب في عالمنا العربي ، حيث لا يكفي أن يحترق في عوالم الإبداع ليخرج لنا روائعه ، بل يجب عليه أيضا أن يواجه محرقة الواقع بكل ما تحمله له من ألم ، وما توصله إليه من دروب مسدودة!!
تجتمع العائلة كلها في انتظار الأب / الشاعر المتوج بالجائزة ، وهي تنتظر أن تكون الجائزة بقدر الجهد الإبداعي الذي أنفقه / أنفقته العائلة كلها « روائعه (أبناؤه) تتلمس غلاف الصندوق بلهفة جارفة كأنما يتحسسون سطح المريخ .. »(ص 47) ، « صاحت زوجته بعد أن تبدت معالم الجائزة وفي مقلتيها طفل تدغدغه براءته ..أوووه يا إلهي إنها فرن أخيرا تحقق حلمي.. »(ص 47) وهنا تبرز روعة التصوير مرة أخرى حيث الفرحة طفل تدغدغه البراءة في عيني الزوجة ، وهي لغة شاعرة حالمة..
هنا يتدخل ظل الضمير ليخاطبه بغيض شديد : « .. لا إنها محرقة يا صاحبي تزفها المدينة لأمثالك.. »(ص 47) فلا مكان للمبدع في المدينة إلا المحرقة تأخذه منها لتذروه رمادا ، وكان أفلاطون أرحم منها عندما اكتفى بإخراجه منها فقط !!
يدخل الشاعر المحرقة بعد أن يدفن دواوينه في سويداء قلبه ، ويبتلع لسانه!! وبروعة ينهي القاص قصته هنا أيضا «دخل المحرقة وأغلق الباب وراءه ..ليبحر في نارها دهرا دونما رجعة.. لكنه عند انتصاف الدرب تذكر أن مفتاح بيته في جيبه ، وبعض من قطع الحلوى كان قد وعد بها أبناءه الصغار عند الصباح »(ص 48)
هكذا يشد الشاعر والمثقف عند الرحيل في المحرقة الحنان والعاطفة التي تبحر به في قصيدة وتعيده إلى واقعه لفظة من ثغر حلو يصيح «بابا».
نعيم هنا لا ينهي قصته بروعة فقط بل يلمس الوتر الحساس الذي يذبح به الشاعر فيرضى بما لا يمكن القبول به رغم الألم والإحباط!!
في « سجن » فن آخر من فنون القص ، ودنيا أخرى ندخلها مع نعيم ، حيث الشخصية الواضحة هنا هي الشاعر ،أما الباقي فهم واضحون / غامضون ، لك أن تتأول ما تشاء في من هم!! أما السجن فهو أوسع معنى من السجن العادي في مخافر الشرطة أو السجون المركزية في أوطاننا العربية!!
الشاعر هنا يأبى أن ينكسر وهو المحاصر والمطارد والمحقق معه في «سجن » وهو هنا دون تعريف لا بألـ التعريف ، ولا بالإضافة ، ولا بالتنوين هو مطلق سجن ، والزبانية مطلق زبانية !! وهو (أي السجن) بالنسبة للمبدع كل ما يحد من إبداعه ، والزبانية هم كل من قاموا بتفتيش حروفه وكلماته ، وقاسوا تفاعيله وأوزانه ، وهم كل من لم يفهمه ولم يتأول معانيه فلم يجدوا سوى صلب المبدع على صليب فهمهم القاصر للعملية الإبداعية .
ولم يكتفي القاص بهذا بل يشبه المبدع بالنبي في قوله : «طرحوك أرضا ..و شقوا صدرك بعد ثوبك .. أخرجوا قلبك النابض الفائر »(ص49) فالسيرة حاضرة هنا في تناص جميل يحيل إلى عكس ما فعل الملائكة مع النبي (ص) ، لأن الملائكة جاؤوا ليغسلوا قلب النبي من درن الشيطان ، وهم جاؤوا ليغسلوا ما في قلب المبدع من جمال وبياض وحب!! والتوظيف ينز روعة ذلك أنه لا رائي بعد الأنبياء غير المبدعين!!
لينهي نعيم قصته بانتصار المبدع – وهو أمل - «سقط الجميع ونهضت كالنبي الموعود بالنص .. تركتهم في سجن قضبانه من ليل لا ينام .. ومضيت تردد آخر أبيات ولدتها لحظة الانعتاق »(ص49)
حلم وأمل انتهت به القصة وحقيقة – ولو كانت بعيدة – أن ينتصر الرائي على من عداه ..وتمضي الرؤيا فاتحة الطريق في ليل الواقع لتغدو بالحاضر ربيعا ينضح بالورد في زمن قادم بعيدا عن عفن توالد واستوطن ويحاول – عبثا – القضاء على حلم المبدعين ودفعهم للركون إلى الواقع !
نعيم في قصصه الثلاث ترتبط لغته بلغة الحلم.. وتمضي عباراته مستحمة في نهر الشعر.. وتغدوا رؤياه ربيعا يراه آت في ألم المخاض الذي يعلو الآن في سماء عالمنا العربي..
نعيم المثردي رائي يغزل الحلم بخيط الحروف شراعا يمخر بحر العدم للوصول إلى ضفة أخرى تترك المحرقة في سجن أفلت منه الرائد الذي لا يكذب أهله!!
· - أنين المدينة : مجموعة قصصية لمبدعين من وادي سوف من إصدارات الرابطة الولائية للفكر والإبداع لولاية الوادي ط 1 مطبعة مزوار للنشر والتوزيع الوادي الجزائر 2007
· - نعيم المثردي مبدع شاب من مواليد 1982 سلك طريق الإبداع صغيرا في فن القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا ، وهو الآن في قسم الماجستير بجامعة ورقلة تخصص :الأدب الجزائري الحديث والمعاصر
منقول