أمام ضغوط الحياة
سلمان السنيدي
١_ المسافات القصيرة
ما أجمل أن يكون للإنسان أخ يستند إليه في الملمات، ويعينه في الشدائد.
وذلك حين يبوح له بما في نفسه، ويجد أن المسافة الى قلبه قصيرة، دون تكلف أو حواجز.
أثبتت الدراسات أن العلاقة الحميمة تعزز الاستقرار النفسي، والابتهاج الداخلي أمام ضغوط الحياة؛ لذا فإن الحاجة ماسة إلى تكوين علاقة جيدة وعميقة، والمحافظة عليها بحسن المعاشرة والتجاوز عن الزلات.
في حالات خاصة: تجد من نفسك شعورا داخليا يقول: لا أحد يفهمني.
وربما في حالات (أكثر خصوصية) يقول هذا الشعور: من يفهمني لا يمنحني الحب.
ومن يمنحني حبه لم يفهمني بعد.
ومن أحبه ويفهمني؛ ليس بيده شيء ٠٠٠٠
٢_ بدون مسافات
يحتاج الإنسان لينعم بعيشه مع من حوله إلى ثلاثة أمور:
_ القرب والفهم
_ الاحترام والتقدير
_ الحب المتبادل
وضغوط الحياة تكشف رصيده من هذه الحاجات.
فيصاب الإنسان بالدهشة والصدمة العميقة عندما يشعر بقلة نصيبه منها،
فيحتار، أينشغل بحل المشكلة؟ أم بما اكتشفه من جرح غائر في مشاعره الداخلية؟
فتتردد في داخله نداءات منها
_ فضلا افهمني
_ استمع إلى مشاعري
_ اجعلني أشعر بأهميتي أولا
_ تعرف على عالمي
_ هل تعرف ما لدي
وبرغم أنها نداءات إغاثة إلا أنه لا سبيل إلى البوح بها أو بجزء منها،
إلا في جو من الأمان التام وشعور غامر بالقرب والاهتمام.
وإذا كان أحرى الناس بسماع هذه النداءات طرف في المشكلة، أو على يده ولسان جرى جرح دواخلنا و مشاعرنا
فلمن نشكو مآسينا
ومن يصغى لشكوانا
ولمن نبوح
٣_ قرب من نوع آخر
ما أضعف الإنسان ـ رجل أو امرأة، فتى كان أو فتاةـ وهو يواجه تلك اللحظات الحرجة ٠٠٠لا يسعفه فيها غناه أو جاهه، ولا كونه ابن ملك أو كونها بنت ثري.
إن من يفهمنا ستكون له عندنا مكانته أكبر.
ومن يفهمنا ويحترم مشاعرنا ويصغي لنا؛ سنتعلق به أكثر.
ومن يفهمنا ويحترمنا ثم يمنحنا حبه؛ سيملك قلوبنا وسنتوجه إليه بكل مشاعرنا وأحاسيسنا،
وكثيرا ما نقول: متى نعيش هذه اللحظات ونستمتع بها؟
ونحن لا نعرفها إلا في طيف خيالنا.
ولولا رحمة الله بعباده لضاقت بهم الأرض بما رحبت.
لقد كان الله سبحانه أقرب إلى عباده من كل أحد
[ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد]
إنه قرب يختصر المسافات قرب من نوع آخر
قرب من الودود الرحيم الذي (يعلم السر وأخفى) وما أخفى السر إلا حديث النفس، إنه يعلم مشاعرنا مهما كانت غائرة في أعماقنا.
لقد تجلى قربه لحبيبه صلى الله عليه وسلم في آيات تلمس أحاسيسه، وتصغى لمشاعره، وهو يواجه ضغوط الحياة من حوله
(واصبر لحكم ربك إنك بأعيننا)
(ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون)
إنه قرب كان صلى الله عليه وسلم يحتاجه ويتطلع إليه في صلاته ودعائه حين يقول:
( اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين)
( اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ٠٠٠وغلبة الدين وقهر الرجال)
وبرغم أن معاناته عليه الصلاة والسلام من ضغوط الحياة المالية والاجتماعية و ٠٠٠٠
لم تتوار من حياته، فكيف إذا أثر قربه من الله وقرب الله منه في حياته؟
٤_ الإحساس الكبير
أثبتت الدراسات الطبية أن "القلق" أهم أسباب حدوث جلطة القلب.
كما أن القلق يضعف مناعة الجسم أما الضغوط الصحية والنفسية،
وهذا يلفت النظر إلى أمر غاية في الأهمية وهو:
إنه إذا لم يكن بإمكاننا تغيير ظروف الحياة وضغوطها؛ لأننا لا نملكها، فإننا نملك نفوسنا، وبإمكاننا إلى حد كبير تغيير نفوسنا ومنعها من القلق.
بالتأكيد ليس الأمر بتلك السهولة، لكنه ليس صعبا أو مستحيلا بل بإمكاننا أن نغير الكثير.
إن دفع القلق ومنعه لا يتم إلا بعد "بناء الإحساس الكبير" بطريقة مستمرة وفعالة
كما يفعل الفلاح في رعاية شتلاته الصغيرة حين يخاف عليها من " ضغوط الحياة "
وهي بالنسبة له: الرياح العاصفة، الهوام والقوارض، الحشائش الضارة.
الفلاح لا يخطر بباله مقاومة هذه الضغوط، ولا يفكر بتأجيل الزراعة حتى تزول أو تتوقف.
بل إن لديه قانونا بسيطا يعمل به بجد واستمرار، يقوم بسقاية شجيراته في كل يوم، بمثابرة وينتظر حتى تكبر وتثمر بعد أشهر أو سنة أو سنوات.
وعندما تكبر الأشجار يزول قلقه عليها، فلا تحدث الضغوط أي قلق سوى توتر مؤقت يحفزه للعمل.
فالشجرة الكبيرة تمنحه إحساسا كبيرا وراحة عميقة، فهو لا يمنع ضغوط الحياة من حولها، بل يمدها باستمرار بقوتها بالماء والغذاء الكافي.
وهكذا نقوي الإحساس في نفوسنا، فلا تعصف بنا الضغوط، ولا تهز المشاكل دواخلنا، وإنما تحدث توترا محدودا ومؤقتا
وذلك من خلال العمل على بناء الإحساس الكبير داخل شجرة مشاعرنا وقلوبنا.
لا من خلال التفكير في الضغوط والمشاكل و انتظار ذهابها و تخيل صفو الحياة.
إن التفكير المتأني في التوجيهات الربانية يكشف لنا جانبا كبيرا ومهما يوضح كيف ينمو في نفوسنا الإحساس الكبير الذي يحمي عواطفنا، ويطمأن نفوسنا وقلوبنا وهي تواجه أشد ضعوط الحياة وأقسى المشاكل وأمر الظروف.
§ لنتأمل دعاء الهم:
(اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماضي حكمك عدل في قضاؤك، أسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، علمته أحدا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وزوال غمي وذهاب همي)
إنه تضرع وتوسل كبير لشيء واحد ليس بمنع الهموم وفناء الأحزان؛ بل أن يمحنا الله قلوبا كبيرة، لها بالقرآن إحساس كبير. لم يكن طلبا بتصغير ضغوط الحياة، وزوال مشاكلها؛ بل طلب بتكبير سر الحياة في شجرة الإحساس في صدورنا.
§ ولنتأمل دعاء المصيبة الوارد في آية ١٥٥ _١٥٧ من سورة البقرة العجيب أن الآيات تأكد على أن طبيعة الحياة لا تخلو من الابتلاء بشيء من الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس ٠٠٠
بمعنى آخر لا تنتظر حياة بلا ضغوط
أو أيام بلا كد
أو علاقات بلا نكد أو معانات
أو ليالي بدون بكاء ومشاعر ظلم وقهر
قال الله تعالى: (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إن لله وإنا إليه راجعون)
إنها كلمات لا تدفعنا للنظر إلى المشاكل كم هي قاسية؟
أو إلي عمق تأثيرها في نفوس وكم جرحت مشاعرنا وحطمت آمالنا!
بل توجهنا فقط إلى تنمية الإحساس الكبيرة في مشاعرنا وقلوبنا.
فنحن لله ابتداء .
ونحن راجعون إليه انتهاء.
وما هذه الحياة بضغوطها إلا مرحلة عابرة، بل لحظة يسيرة
بل أكبر مشاكلها لا تعدو أن تكون نقطة صغيرة إذا قورنت بحقيقة البداية وخلود النهاية.
ومن استوعب هذه الحقيقة، و سيطرت على مشاعره؛ فسيحلق بإحساس كبير فوق الحياة، وسينعم بصدق بما وصف الله
(أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون).