اتجه
الفنان المسلم إلى عوالم جديدة بعيدة عن رسم الأشخاص، وبعيدة أيضًا عن
محاكاة الطبيعة، وهنا ظهرت عبقريته وتجلَّى إبداعه، وعمل خياله، وحِسَّه
المرهف، وذوقه الأصيل، فكان من هذه العوالم عالم الزخرفة.
فإذا
كانت صناعة الجمال هي وظيفة الفنِّ الإسلامي، فإن الزخرفة تُعَدُّ واحدة
من الوسائل المهمَّة التي تصنع ذلك الجمال؛ فهي العمل الخالص الذي لا
يُقْصَدُ به إلاَّ صُنْعَ الجمال، وهنا يلتقي شكلُ العمل الفني بمضمونه
لِيُكَوِّنَا وَحدة متماسكة لِصُنْعِ الجمال ظاهرًا وباطنًا، الأمر الذي لا
نكاد نجده في أي نوع آخر من الفنون[1].
خصائص الزخرفة الإسلامية اتخذت
الزخرفة الإسلامية خصائص مميِّزة كان لها عظيم الأَثَرِ في إبراز المظهر
الحضاري لنهضة المسلمين، وازدهرت بدرجة عالية، سواءٌ من حيث تصميمها
وإخراجها أو من حيث موضوعاتها وأساليبها، واستخدم التقنيون المسلمون
خطوطًا زخرفية رائعةَ المظهر والتكوين، وجعلوا من المجموعات الزخرفيَّة
نماذج انطلق فيها خيالهم إلى اللانهاية والتكرار والتجدُّد والتناوب
والتشابك، وابتكروا المضلَّعَات النجمية وأشكال التوريق، وأشكال التوشح
العربي الذي أطلق عليه الأوربيون (الأرابيسك Arabesque)، ولا يزال هذا
النسق العربي في الزخرفة يحظى بالاهتمام في بلدان عديدة منذ ظهر لأوَّل
مَرَّة في الزخرفة الفاطمية، وفي مسجد الأزهر، في منتصف القرن الرابع
الهجري (العاشر الميلادي)، وقد حذق أهل تقنية الزخارف المعمارية الإسلامية
صنعةَ النحت المسطَّح والغائر على الخشب، أو الحجارة، أو الرخام، ومهروا
في استخدام الموادِّ الملوَّنة، وإجادة النقوش[2].
هذا،
وتُعَدُّ العناصر النباتية، وكذا العناصر الهندسية مقوِّمَات أساسية في
بناء هذا الفنِّ، تتعاون مع بعضها تارة، وتنفرد كل منهما على حِدَةٍ تارة
أخرى، وعلى هذا فهناك نوعان من الزخرفة: الزخرفة النباتية، والزخرفة
الهندسية[3].
الزخرفة النباتية وتقوم
الزخرفة النباتية أو (فنُّ التوريق) على زخارف مُشَكَّلَة من أوراق
النبات المختلفة والزهور المنوَّعة، وقد أُبْرِزَتْ بأساليب متعدِّدَة من
إفراد ومزاوجة وتقابُل وتعانق، وفي كثير من الأحيان تكون الوحدة في هذه
الزخرفة مؤلَّفة من مجموعة من العناصر النباتية متداخلة ومتشابكة
ومتناظرة، تتكرَّرُ بصورة منتظمة.
وبإعمال الفنان المسلم
خيالَه استطاع أن يبتعد بفنِّه عن تقليد الطبيعة، فجاءت توريقاته عملاً
هندسيًّا، أُمِيتَ فيه العنصرُ الحيُّ، وساد فيه مبدأ التجريد، وقد انتشر
استعمال هذه الزخارف في تزيين الجدران والقباب، وفي التحف المختلفة
(نحاسيَّة وزجاجية وخزفية)، وفي تزيين صفحات الكتب وتجليدها.
الزخرفة الهندسية وهي
النوع الآخر للزخرفة الإسلامية؛ حيث برع المسلمون في استعمال الخطوط
الهندسية، وصياغتها في أشكال فنية رائعة، فظهرت المضلَّعات المختلفة،
والأشكال النجمية، والدوائر المتداخلة، وقد زَيَّنَتْ هذه الزخرفةُ
المباني، كما وشحت التحف الخشبية والنحاسية، ودخلت في صناعة الأبواب وزخرفة
السقوف؛ ممَّا يُعَدُّ دليلاً على عِلْـمٍ مُتَقَدِّمٍ بالهندسة العملية.
وقد
استطاع المسلمون استخراج أشكال هندسية متنوِّعة من الدائرة، منها المسدس
والمثمن والمعشر، وبالتالي المثلث والمربع والمخمَّس، ومن تداخُل هذه
الأشكال مع بعضها وملء بعض المساحات وترك بعضها فارغًا نحصل على ما لا حصر
له من تلك الزخارف البديعة، التي تستوقف العين، لتنتقل بها رويدًا رويدًا
من الجزء إلى الكل، ومن كُلٍّ جزئيٍّ إلى كُلٍّ أكبر.
وكان
همُّ الفنان المسلم وشُغْلُه الشاغل، أن يبحث عن تكوين جديدٍ مُبْتَكَرٍ
يتولَّدُ من اشتباكات قواطع الزوايا أو مزاوجة الأشكال الهندسية؛ لتحقيق
مزيدٍ من الجمال الرصين، ومن أمثلة الأشكال الهندسية التي استعملها:
الدوائر المتماسَّة والمتجاورة، والجدائل والخطوط المنكسرة والمتشابكة.
ومن أبرز أنواع الزخارف الهندسية التي امتازت بها الفنون الإسلامية:
الأشكال النجمية متعدِّدَة الأضلاع، والتي تُشَكِّلُ ما يُسَمَّى
(الأطباق النجمية)، وقد اسْتُخْدِمَ هذا الضرب من الزخارف في زخارف
التُّحَفِ الخشبية والمعدنية، وفي الصفحات المُذَهَّبَة في المصاحف
والكتب، وفي زخارف السقوف.
ولقد كان الناقد الفرنسي
هنري فوسيون (H. Faucillon) دقيق التعبير عميق الملاحظة حينما قال: "ما
أخال شيئًا يمكنه أن يجرِّد الحياة من ثوبها الظاهر، وينقلنا إلى مضمونها
الدفين مثل التشكيلات الهندسية للزخارف الإسلامية؛ فليست هذه التشكيلات
سوى ثمرة لتفكير قائم على الحساب الدقيق، قد يتحول إلى نوع من الرسوم
البيانية لأفكار فلسفية ومعانٍ رُوحية. غير أنه ينبغي ألاَّ يفوتنا أنه
خلال هذا الإطار التجريدي تنطلق حياةٌ متدفِّقة عَبْرَ الخطوط، فتؤلّف
بينها تكوينات تتكاثر وتتزايد، متفرِّقة مَرَّة ومجتمعة مَرَّات، وكأن هناك
رُوحًا هائمة هي التي تمزج تلك التكوينات وتُبَاعِدُ بينها، ثم
تُجَمِّعُهَا من جديد، فكلُّ تكوين منها يَصْلُح لأكثرَ من تأويل، يتوقَّفُ
على ما يُصَوِّبُ عليه المَرْءُ نظرَه ويتأَمَّلُه منها، وجميعها تُخْفِي
وتكشف في آنٍ واحد عن سِرِّ ما تَتَضَمَّنُه من إمكانات وطاقات بلا حدود"[4].
ومن
أبرز العمليات الفنية في الزخرفة الإسلامية: الترصيع، التكفيت، التلبيس،
التعشيق، التطعيم، التجصيص، القرنصة، التزويق، التصفيح، التوشيع. ومن أبرز
الموادِّ المستخدمة فيها: الرخام، الجصُّ، الخشب، المعادن، الآجُرّ،
الفسيفساء، القاشاني، الخزف.
وعن فنِّ الزخرفة وبيان غايته وخصائصه يقول روجيه جارودي[5]:
"إنَّ فنَّ الزخرفة العربي يتطلَّع إلى أن يكون إعرابًا نمطيًّا عن مفهوم
زخرفي، يَجْمَعُ بآنٍ واحد بين التجريد والوزن، وإن معنى الطبيعة
الموسيقي، ومعنى الهندسة العقلي، يُؤَلِّفَان دومًا العناصر المقوّمَة في
هذا الفنِّ"[6].