تأملات في العناية الإلهية
الشيخ محمد رضا حاتم
أن العناية الالهية المتمثلة برحمة الله الواسعة تجسدت في المقومات الموهوبة والقدرات الممنوحة لعباده كي يعيشوا حياة يسودها الامن والامان والبشرى والسلام.
تبدأ هذه العناية الالهية بتكريم الله عز وجل للانسان بالملكة العقلية , فكان العقل ولم يزل سلطانا حقيقيا نفذ وينفذ من خلاله الانسان في تطوره الحضاري المستمر على المستويين الروحي والمادي قوله تعالى: «ولقد كرمنا بني آدم» الإسراء 70 .
وتمتد العناية الالهية إلى تسخير ما في السماوات والارض لهذا الانسان حتى ركب الانسان سفينة التسخير إلى شاطئ الاكتشافات اللامتناهي حيث الاسرار الكونية وسبر الظواهر من خلال الوصول إلى العلة قوله تعالى: «الم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الارض واسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة» لقمان 20 .
ويتربع المخلوق البشري المكانة الأرفع عندما يمنحه ربه تعالى النيابة والاستخلاف قوله تعالى: «اني جاعل في الارض خليفة» البقرة 30
وبالاستخلاف يستطيع الانسان أن يستعمر الارض قوله تعالى: «هو انشأكم من الارض واستعمركم فيها» هود 61 .
وفوق كل هذه النعم التي لا تعد ولا تحصى .. وقى الله عز وجل بعنياته عباده شر خلافاتهم واختلافاتهم الناتجة عن أهوائهم وعواطفهم وتعصبهم وعجزهم .. فأرسل رسلاً والظلم والطغيان أنبياء وأنزل كتباً ليخرج عباده من الظلمات إلى النور ومن الجهل إلى العلم ومن الضلالة إلى الهدى قوله تعالى: « ومامن أمة الا خلا فيها نذير » فاطر 24 . « ليخرجكم من الظلمات إلى النور » الاحزاب 43 .
وفي نظرة شمولية إلى اوامر الله تعالى ونواهيه .. نجد أن دين الاسلام دين الأنبياء والمرسلين .. لم يكن في حقيقته دينا علاجيا قبل أن يكون وقائياً .. لقد تناول في أحكامه المادة والروح بشكل جلي وهذا هو معيار التوازن المراد لبني الانسان .. أراد له أن يستقيم حتى لا يقع في طغيان أحد الجانبين على الآخر .. وليكون متفاعلا مع أخيه الانسان في كل جوانب الحياة .. وعمارة الارض .
ولما وقع الخلل .. في طغيان الجانب المادي بنسبة متزايدة .. نجد أن القرآن الكريم أهم مصادر الدين الاسلامي يعالج هذا الخلل في نداءاته قوله تعالى: «قل يا عبادي الذين اسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله أن الله يغفر الذنوب جميعا» الزمر 53 .انها عناية إلهية في الدعوة إلى التفاؤل والاستمرار والانابة والتوبة والاستغفار .. ومن هنا نجد في فريضة الصيام عيادة صحية عامة وقائية وعلاجية في أن واحد. .. قال تعالى : « يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون » البقرة 183. من هنا يجب على المؤمن أن يعيش حالته الصيامية بتمامها وكمالها وان يستشعر ثمرات صيامه من خلال استقامته وغفران ذنوبه كما يستشعر المريض التحسن عندما يتناول دواءه.
والذي يجب أن ندركه هو أن الصيام كوقاية هو أن نصدق بأن العناية الإلهية حالة مستمرة ما دمنا نتفاعل ونتحرك مع الحدود التي رسمها الله عز وجل لهذه الفريضة كما لا يجوز تمييع الفكر الديني بإلباس هذه الفريضة حدودا وهمية تتمثل بتسويغاتنا واختلاقاتنا لكثير من الرخص التي لم ينزل بها سلطان. وفي نفس المنحى فإن المغالاة في تقديس حرفية النص دونما انفتاح على احتمالاته الايجابية في رفع سوية الفرد والمجتمع وفي برهنة المرونة والقدرة على المخاطبة بلغة العصر هو أمر تجميدي للنص وتقييد للفرد المسلم وحبس في قفص الأنا بدلا من عيشه الحر في دائرة الـ «نحن» الاسلامية والانسانية.
وبمناسبة حلول شهر رمضان المبارك نرفع اسمى آيات التبريك راجين الله العلي القدير أن يمنحنا فيه بركته وعفوه ومغفرته ورحمته حتى نعود إلى الحقيقة الانسانية التي أرادها لنا ربنا سبحانه وتعالى.