في سوادِ الشارعِ المُظلم والصمتِ الأصمِّ
حيثُ لا لونَ سوى لونِ الدياجي المدلهمِّ
حيثُ يُرخي شجرُ الدُفلى أساهُ
فوقَ وجهِ الأرضِ ظلاَّ ،
قصةٌ حدّثني صوتٌ بها ثم اضمحلا
وتلاشتْ في الدَّياجي شفتاهُ
-2-
قصةُ الحبّ الذي يحسبه قلبكَ ماتا
وهو ما زالَ انفجاراً وحياةَ
وغداً يعصرُكَ الشوقُ إليَّا
وتناديني فتَعْيَـى ،
تَضغَظُ الذكرى على صَدركَ عِبئا
من جنونٍ ، ثم لا تلمُسُ شيئا
أيُّ شيءٍ ، حُلمٌ لفظٌ رقيقُ
أيُّ شيءٍ ، ويناديكَ الطريقُ
فتفيقُ .
ويراكَ الليلُ في الدَّرْبِ وحيداً
تسألُ الأمسَ البعيدا
أنْ يعودا
ويراكَ الشارعُ الحالِمُ والدُفْلى ، تسيرُ
لونُ عينيكَ انفعالٌ وحبورُ
وعلى وجهك حبٌّ وشعورُ
كلّ ما في عمقِ أعماقِكَ مرسومٌ هناكْ
وأنا نفسي أراكْ
من مكاني الداكن الساجي البعيدْ
وأرى الحُلْمَ السَّعيدْ
خلفَ عينيكَ يُناديني كسيرا
..... وترى البيتَ أخيرا
بيتنا ، حيثُ التقينا
عندما كانَ هوانا ذلك الطفلَ الغَرِيرا
لونُهُ في شفتَينا
وارتعاشاتُ صِباهُ في يَدَيْنَـا
-3-
وترى البيتَ فتبقى لحظةً دونَ حِراكْ :
" ها هو البيتُ كما كان ، هناك
لم يزلْ تَحجبُهُ الدُفْلَى ويَحنو
فوقَهُ النَّارنجُ والسروُ الأغنُّ
وهنا مجلسنا ...
ماذا أُحسُّ ؟
حيرةٌ في عُمق أعماقي ، وهمسُ
ونذيرٌ يتحدَّى حُلمَ قلبي
ربما كانت .. ولكن فِيمَ رُعْبِي؟
هي ما زالتْ على عَهد ِهَوَانا
هي ما زالتْ حَنانا
وستلقاني تحاياها كما كنا قديما
وستلقاني ... " .
وتمشي مطمئناً هادئاً
في الممرِّ المظلم الساكن ، تمشي هازئا
بِهتافِ الهاجسِ المنذر بالوَهْم الكذوبِ :
" ها أنا عُدت وقد فارقتُ أكداسَ ذنوبي
ها أنا ألمحُ عينيكِ تُطِلُّ
ربما كنتِ وراءَ البابِ ، أو يُخفيكِ ظلُّ
ها أنا عُدتُ، وهذا السلَّمُ
هو ذا البابُ العميقُ اللونِ ، ما لي أُحجمُ ؟
لحظةً ثم أراها
لحظةً ثم أعي وَقْعَ خُطاها
ليكن.. فلأطرقِ البابَ ... "
وتمضي لَحَظَاتْ
ويَصِرُّ البابُ في صوتٍ كئيبِ النبراتْ
وتَرى في ظُلمةِ الدهليزِ وجهاً شاحبا
جامداً يعكسُ ظلاً غاربا :
" هلْ .. ؟ " ويخبو صوتُكَ المبحوحُ في نَبْرٍ
حزينْ
لا تقولي إنها... "
" يا للجنونْ !
أيها الحالِمُ ، عَمَّن تسألُ ؟
إنها ماتتْ "
وتمضي لحظتانْ
أنت ما زلتَ كأنْ لم تسمعِ الصوتَ المثُيرْ
جامداً ، تَرْمُقُ أطرافَ المكانْ
شارداً ، طرفُك مشدودٌ إلى خيطٍ صغيرْ
شُدَّ في السرْوة لا تدري متى ؟
ولماذا ؟ فهو ما كانَ هناك
منذُ شهرينِ ، وكادتْ شفتاكْ
تسألُ الأختَ عن الخيطِ الصغيرْ
ولماذا علَّقوهُ ؟ ومتى ؟
ويرنُّ الصوتُ في سمعكَ : " ماتت.."
"إنها ماتتْ.." وترنو في برودِ
فترَى الخيطَ حِبالاً من جليدِ
عقدتها أذرُعٌ غابت ووارتها المَنُونْ
منذ آلافِ القُرونْ
وتَرى الوجهَ الحزينْ
ضخَّمتْهُ سحُبُ الرُّعب على عينيكَ . "ماتت.."
-4-
هي " ماتتْ " لفظةٌ من دونِ معنى
وصَدى مطرقةٍ جوفاءَ يعلو ثم يَفْنَى
ليسَ يعنيكَ تَواليه الرتيبُ
كلّ ما تُبصرُهُ الآنَ هو الخيطُ العجيبُ
أتراها هي شَدَّتهُ ؟ ويعلو
ذلك الصوتُ المُملُّ
صوتُ " ماتتْ " داوياً لا يضمحلُّ
يملأُ الليلَ صُراخاً ودويّا
" إنَّها ماتت " صدى يهمسهُ الصوتُ مليّا
وهُتافٌ رددتُه الظلماتُ
ورَوَتْهُ شجراتُ السروِ في صوتٍ عميقِ
" أنّها ماتت " وهذا ما تقولُ العاصفاتُ
" إنّها ماتتْ " صَدىً يصرخُ في النجمِ السحيقِ
وتكادُ الآنَ أنْ تسمعهُ خلفَ العروقِ
-5-
صوتُ ماتتْ رنَّ في كلِّ مكانِ
هذه المطرقةُ الجوفاءُ في سَمع الزمانِ
صوتُ " ماتت " خانقٌ كالأفعوانِ
كلُّ حرفٍ عصبٌ يلهثُ في صدركَ رُعبا
ورؤى مشنقةٍ حمراء لا تملكُ قلبا
وتَجَنِّي مِخلبٍ مختلجٍ ينهش نَهشا
وصدى صوتٍ جحيميٍّ أجَشَّا
هذه المطرقةُ الجوفاءُ : " ماتت "
هي ماتتْ ، وخلا العالَمُ منها
وسُدَىً ما تسألُ الظلمةَ عنها
وسُدَىً تُصغي إلى وقعِ خطاها
وسُدَىً تبحثُ عنها في القمر
وسُدَىً تَحْلمُ يوماً أن تراها
في مكانٍ غير أقباءِ الذِّكَرْ
إنَّها غابت وراء الأنْجُمِ
واستحالتْ ومضةً من حُلُمِ
-6-
ثم ها أنت هنا، دونَ حراكْ
مُتعَبَـاً ، تُوشِكُ أن تنهارَ في أرض الممرِّ
طرفُكَ الحائرُ مشدودٌ هناكْ
عند خيطٍ شُدَّ في السَّرْوَةِ، يطوي ألف سِرِّ
ذلك الخيطُ الغريبْ
ذلك اللغزُ المُريبْ
إنَّـه كلُّ بقايا حبِّكَ الذاوي الكئيبْ .
-7-
ويَراكَ الليلُ تَمشي عائدا
في يديك الخيطُ ، والرعشةُ ، والعِرْقُ المُدَوِّي
" إنَّها ماتتْ .. " وتمضي شاردا
عابثاً بالخيط تطويهِ وتَلوي
حول إبْهامِكَ أُخراهُ ، فلا شيء سواهُ ،
كلُّ ما أبقى لك الحبُّ العميقُ
هو هذا الخيطُ واللفظُ الصفيقُ
لفظُ " ماتتْ " وانطوى كلُّ هتافٍ ما عداه