الأولى : قال مجاهد : نزلت في رجل من قريش كان يدعى ذا القلبين من دهائه ، وكان يقول : إن لي في جوفي قلبين ، أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد . قال : وكان من فهر . الواحدي والقشيري وغيرهما : نزلت في جميل بن معمر الفهري ، وكان رجلا حافظا لما يسمع . فقالت قريش : ما يحفظ هذه الأشياء إلا وله قلبان . وكان يقول : لي قلبان أعقل بهما أفضل من عقل محمد . فلما هزم المشركون يوم بدر ومعهم جميل بن معمر ، رآه أبو سفيان في العير وهو معلق إحدى نعليه في يده والأخرى في رجله ; فقال أبو سفيان : ما حال الناس ؟ قال انهزموا . قال : فما بال إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك ؟ قال : ما شعرت إلا أنهما في رجلي ; فعرفوا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده . وقال السهيلي : كان جميل بن معمر الجمحي ، وهو ابن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح ، واسم جمح : تيم ; وكان يدعى ذا القلبين فنزلت فيه الآية ، وفيه يقول الشاعر :
وكيف ثوائي بالمدينة بعد ما قضى ** وطرا منها جميل بن معمر
قلت : كذا قالوا جميل بن معمر . وقال الزمخشري : جميل بن أسد الفهري . وقال ابن عباس : سببها أن بعض المنافقين قال : إن محمدا له قلبان ; لأنه ربما كان في شيء فنزع في غيره نزعة ثم عاد إلى شأنه الأول ; فقالوا ذلك عنه فأكذبهم الله عز وجل . وقيل : نزلت في عبد الله بن خطل . وقال الزهري وابن حبان : نزل ذلك تمثيلا في زيد بن حارثة لما تبناه النبي صلى الله عليه وسلم ; فالمعنى : كما لا يكون لرجل قلبان كذلك لا يكون ولد واحد لرجلين . قال النحاس : وهذا قول ضعيف لا يصح في اللغة ، وهو من منقطعات الزهري ، رواه معمر عنه .
[ ص: 110 ] وقيل : هو مثل ضرب للمظاهر ; أي كما لا يكون للرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة المظاهر أمه حتى تكون له أمان . وقيل : كان الواحد من المنافقين يقول : لي قلب يأمرني بكذا ، وقلب يأمرني بكذا ; فالمنافق ذو قلبين ; فالمقصود رد النفاق . وقيل : لا يجتمع الكفر والإيمان بالله تعالى في قلب ، كما لا يجتمع قلبان في جوف ; فالمعنى : لا يجتمع اعتقادان متغايران في قلب . ويظهر من الآية بجملتها نفي أشياء كانت العرب تعتقدها في ذلك الوقت ، وإعلام بحقيقة الأمر ، والله أعلم .
الثانية : القلب بضعة صغيرة على هيئة الصنوبرة ، خلقها الله تعالى في الآدمي وجعلها محلا للعلم ، فيحصي به العبد من العلوم ما لا يسع في أسفار ، يكتبه الله تعالى فيه بالخط الإلهي ، ويضبطه فيه بالحفظ الرباني ، حتى يحصيه ولا ينسى منه شيئا . وهو بين لمتين : لمة من الملك ، ولمة من الشيطان ; كما قال صلى الله عليه وسلم . خرجه الترمذي ; وقد مضى في ( البقرة ) . وهو محل الخطرات والوساوس ومكان الكفر والإيمان ، وموضع الإصرار والإنابة ، ومجرى الانزعاج والطمأنينة . والمعنى في الآية : أنه لا يجتمع في القلب الكفر والإيمان ، والهدى والضلال ، والإنابة والإصرار ، وهذا نفي لكل ما توهمه أحد في ذلك من حقيقة أو مجاز ، والله أعلم .
الثالثة : أعلم الله عز وجل في هذه الآية أنه لا أحد بقلبين ، ويكون في هذا طعن على المنافقين الذين تقدم ذكرهم ; أي إنما هو قلب واحد ، فإما فيه إيمان وإما فيه كفر ; لأن درجة النفاق كأنها متوسطة ، فنفاها الله تعالى وبين أنه قلب واحد . وعلى هذا النحو يستشهد الإنسان بهذه الآية ، متى نسي شيئا أو وهم . يقول على جهة الاعتذار : ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه .
الرابعة : قوله تعالى : وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم يعني قول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي . وذلك مذكور في سورة ( المجادلة ) على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
الخامسة : قوله تعالى : وما جعل أدعياءكم أبناءكم أجمع أهل التفسير على أن هذا نزل في زيد بن حارثة . وروى الأئمة أن ابن عمر قال : ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن [ ص: 111 ] محمد حتى نزلت : قوله تعالى : ( ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما. الأحزاب ( 5 ) وكان زيد فيما روي عن أنس بن مالك وغيره مسبيا من الشأم ، سبته خيل من تهامة ، فابتاعه حكيم بن حزام بن خويلد ، فوهبه لعمته خديجة فوهبته خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه وتبناه ، فأقام عنده مدة ، ثم جاء عمه وأبوه يرغبان في فدائه ، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم وذلك قبل الالظلم والطغيان : خيراه فإن اختاركما فهو لكما دون فداء . فاختار الرق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حريته وقومه ; فقال محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك : يا معشر قريش اشهدوا أنه ابني يرثني وأرثه وكان يطوف على حلق قريش يشهدهم على ذلك ، فرضي ذلك عمه وأبوه وانصرفا . وكان أبوه لما سبي يدور الشأم ويقول :
بكيت على زيد ولم أدر ما فعل ** أحي فيرجى أم أتى دونه الأجل فوالله لا أدري وإني لسائل ** أغالك بعدي السهل أم غالك الجبل فيا ليت شعري ! هل لك الدهر أوبة ** فحسبي من الدنيا رجوعك لي بجل تذكرنيه الشمس عند طلوعها ** وتعرض ذكراه إذا غربها أفل وإن هبت الأرياح هيجن ذكره ** فيا طول ما حزني عليه وما وجل سأعمل نص العيس في الأرض جاهدا ** ولا أسأم التطواف أو تسأم الإبل حياتي أو تأتي علي منيتي ** فكل امرئ فان وإن غره الأمل
فأخبر أنه بمكة ; فجاء إليه فهلك عنده . وروي أنه جاء إليه فخيره النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا وانصرف . وسيأتي من ذكره وفضله وشرفه شفاء عند قوله : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها إن شاء الله تعالى . وقتل زيد بمؤتة من أرض الشأم سنة ثمان من الهجرة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمره في تلك الغزاة ، وقال : إن قتل زيد فجعفر فإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة . فقتل الثلاثة في تلك الغزاة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين . ولما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعي زيد وجعفر بكى وقال : أخواي ومؤنساي ومحدثاي .
السادسة : قوله تعالى : ذلكم قولكم بأفواهكم بأفواهكم تأكيد لبطلان [ ص: 112 ] القول ; أي أنه قول لا حقيقة له في الوجود ، إنما هو قول لساني فقط . وهذا كما تقول : أنا أمشي إليك على قدم ; فإنما تريد بذلك المبرة . وهذا كثير . وقد تقدم هذا المعنى في غير موضع . والله يقول الحق ( الحق ) نعت لمصدر محذوف ; أي يقول القول الحق . ( يهدي ) معناه يبين ; فهو يتعدى بغير حرف جر .
عدل سابقا من قبل فؤاد حسني الزعبي في 6/6/2014, 08:54 عدل 1 مرات
بختة المراقب العام المميز
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
بطاقة الشخصية المجلة: 50
موضوع: رد: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه. 4/12/2013, 11:37
بارك الله فيك على الموضوع ، في ميزان حسناتك
دكتورة.م انوار صفار Admin
تاريخ التسجيل : 04/04/2010 البلد /المدينة : bahrain
بطاقة الشخصية المجلة:
موضوع: رد: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه. 5/3/2013, 19:42
شرح وافي وكافي(ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه). بارك الله فيك وجعله من موازين حسناتك
بثينة الزعبي المراقب العام المميز
تاريخ التسجيل : 18/02/2012 العمر : 68 البلد /المدينة : النمسا / فيينا
موضوع: رد: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه. 5/16/2013, 23:49
بارك الله فيك زجعله في ميزان حسناتك على الموضوع القيم والمفيد