نزار.. وديوان مابعد الرحيل “أبجدية الياسمين” تَعِبَ الكلامُ من الكلامِ…قصائد غير منشورة للشاعر نزار قباني كتبها قبل رحيله
قبل أشهر على رحيل الشاعر نزار قباني في العام 1998 دأب على كتابة القصائد خلال عزلته المرضية في منزله اللندني. وكان عزف عن النشر مؤثراً الاحتفاظ بما كان يكتب، حيناً تلو آخر. حتى في المستشفى الذي قضى فيه أياماً ولياليَ لم يكن ينثني عن كتابة الأبيات والمقاطع الشعرية وأحياناً على أوراق صغيرة ومنها أوراق «الروشتات» او الوصفات الطبية الخاصة بالصيدلية.
غاب نزار قباني وظلّت قصائده تلك مجهولة وغير منشورة، تنتظر ان تخرج الى الضوء من عتمة الأدراج. وها هي عائلته ترتأي أخيراً نشرها في الذكرى العاشرة لرحيله، في ديوان يصدر خلال عشرة أيام عن دار نوفل (بيروت) عنوانه «أبجدية الياسمين». هنا قصائد مختارة من الديوان، اضافة الى المقدمة التي وضعها أبناء الشاعر.
أبجدية الياسمين
ولد في 21 آذار (مارس) 1923 ورحل في 30 نيسان (ابريل) 1998.
ولد في الربيع ورحل في الربيع.
الربيع كان قدره كما كان الشعر.
... الأرض وأمي حملتا في وقت واحد ووضعتا في وقت واحد...
(من مقدمة قصتي مع الشعر)
في كل فصل ربيع كان يتأمل الأشجار المزهرة بإعجاب شديد وكأنه يراها كل مرة للمرة الأولى. فيهزّ برأسه قائلاً: «سبحان الله، كل شجرة لبست فستانها المفضل، واحـــدة بالأبيض والثانية بالزهر وأخرى بالأصفر وكل منها وكأنها تتزين لعرسها، أو تتنافس بينها كالبنات الفرحات بملابسهن الجديدة في العيد.
في الثلاثين من نيسان لهذا العام 2008 تمر عــشرة أعوام على رحيله. واحد من أكبر الشعراء العرب المعاصرين وواحد من أعظم الآباء، فتحية له ولعشاقه قررنا جمع القصائد الأخـــيرة التي كتبــها بين عامي 1997 و1998 والتي لم تصدر في كتاب من قبل وننشرها كما كتبها بخط يده الجميل لنشارك محبيه كيفية كتابته للشعر ومزاجه والإلهام كيف يأتيه لعله الآن في أجمل مكان يبتسم لنا.
عندما مرض وفي السنة الأخيرة قبل وفاته كنا نتفائل عندما يشعر بالرغبة في الكتابة لأنها بالنسبة الينا كانت رغبة منه في الحياة، وكنا نحرص على وضع أوراقه وأقلامه بالقرب من سريره لعله يكتب لأن الشعر كان لديه هو الحياة.
ولكن مع الأيام كثرت الأدوية وخفتت قدرته على الكتابة، فأزحنا الأوراق بعيداً وتركنا قلماً، وفي ليلة استفاق ليكتب فوجد القلم وليس الورق، ولكن لحسن الحظ وجد كيس أدويته وهو مصنوع من الورق، فأفرغ الكيس وكتب عليه فكانت هذه الصفحة الفريدة التي نشارككم إياها كما كتبها على كيس الصيدلية.
تَعِبَ الكلامُ من الكلامِ…
- 1 -
لم يبقَ عندي ما أقولُ.
لم يبقَ عندي ما أقولُ.
تعبَ الكلاَمُ من الكَلامِ…
وماتَ في أحداق أعيُننَا النخيلُ…
شَفَتايَ من خَشَبٍ…
ووجهُكِ مُرْهَقٌ
والنَهْدُ… ما عَادَت تُدَقُّ لهُ الطُبولُ!!
- 2 -
لم يبقَ عندي ما أقولُ.
الثلجُ يسقطُ في حديقتنا
ويسقطُ من مشاعِرنا…
ويسقُط من اصابعنا…
ويسقطُ في الكُؤوسِ
وفي النبيذِ…
وفي السريرِ
فأينَ هوَ البديلُ؟!
- 3 -
لم يبقَ عندي ما أقولُ.
يَبسَت شرايينُ القصيدة…
وانتهى عصرُ الرتابةِ… والصبابةِ…
وانتهى العُمرُ الجميلُ!…
- 4 -
الشِعرُ غادرني
فلا بحرٌ بسيطٌ… أو خفيفٌ… أو طويلُ…
والحب غادرني
فلا قمرٌ…
ولا وترٌ…
ولا ظِلُّ ظليلُ…
- 5 -
لم يبقَ عندي ما أقولُ.
لم يبقَ في الميدان فُرسانٌ…
ولا بقيتْ خُيُولُ…
فالجِنسُ صعبٌ…
والوصُولُ الى كُنوزِكِ مُستحيلُ!!…
والنهدُ يقتُلُني…
ويزعمُ أنه الطرفُ القتيلُ!!
والموجُ يرفعني… ويرميني… كثورٍ هائجٍ…
فلأيِّ ناحيةٍ أميلُ؟؟
ماذا سيبقى من حصانِ الحُبِّ…
لو ماتَ الصهيلُ؟؟
- 6 -
لم يبقَ شيءٌ في يدي…
هربت عصافيرُ الطفولةِ من يدي…
هربت حبيباتي…
وذاكرتي…
وأَقلامي…
وأُوراقي…
وأقفرتِ الشواطئ… والحقولُ…
- 7 -
لم يبقَ عندي ما أقولُ
طارَ الحمامُ من النوافذِ هارباً…
والريش سافرَ… والهديلُ…
ضاعت رسائلنا القديمةُ كلها…
وتناثرت أوراقُها.
وتناثرت أشواقُها.
وتناثرت كلماتها الخضراءُ في كلّ الزوايا…
فبكى الغمامُ على رسائلنا…
كما بكتِ السنابلُ…
والجداولُ…
والسُهُولُ…
- 8 -
عيناكِ تاريخانِ من كحلٍ حجازيٍ…
ومن حُزنٍ رماديٍ…
ومن قلقٍ نسائيٍ…
فكيف يكونُ، سيّدتي الرحيلُ…
إنّي أفرُّ الى أمامي دائماً…
فهل ابتعادي عنكٍ، سيدتي وصُولُ؟…
ماذا سأفعلُ كيف أفكّ سلاسِلي؟
لا الشِعرُ يجديني… ولا تُجدي الكحولُ!!…
- 9 -
لم يبقَ شيءٌ في يدي.
كلُّ البُطولاتِ انتهت…
والعنترياتُ انتهت…
ومعاركُ الإعرابِ… والصرفِ… انتهت…
لا ياسمينُ الشام يعرفُني
ولا الأنهارُ. والصفصافُ… والأهدابُ… والخدُّ الأسيلُ…
وأنا أحدِّقُ في الفراغِ…
وفي يدَيكِ…
وفي أحاسيسي…
فيغمرُني الذُهولُ…
- 10 -
أرجوُ السماحَ…
إذا جلستُ على الأريكة مُحبطاً.
ومُشتتاً…
ومُالظلم والطغيانراً…
أرجُو سماحكِ…
إن نسيتُ بلاغتي…
لم يبقَ من لُغَةِ الهوى إلا القليلُ!!
(لندن 15 آذار (مارس) 1997)
يتبع