حجاب المرأة وأخلاقها: وصل أم فصل؟!التدين ضميراً مستتراً في القلب ومنفصلاً عن أعمال الجوارح، بل إن ما في القلب يبرز في الظاهر، ويتصل بالسلوك الخارجي والعكس.
"ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب"، ومن ادّعى أنه يحب النظافة ويقدر الطهارة ومع ذلك لا نراه إلاّ في جسد منتن تفوح منه الروائح الكريهة، يواريه بثياب ملوثة فهو كاذب في دعواه، ولو حلف تحت أستار الكعبة، إلاّ إذا علمنا أنه لا يجد ماء يتطهر به، ولا يملك ثوباً نقياً يوراي سوأته.
ومن تأمل العبادات في شريعتنا وجد التلازم بين أعمال الظاهر وأعمال الباطن؛ فالصلاة (مثلاً) عبادة قلبية قبل أن تكون عبادةً ظاهرة، والمسلم فيها قبل أن يتوجّه بجسده إلى القبلة يتوجّه قبل ذلك بقلبه إلى ربه، وبقدر إتقانه لعمل القلب يتقن عمل الجوارح
(ولو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه). كما أن المسلم حين يخرج الزكاة ظاهراً فإنه يطهّر باطنه قبل ذلك من رذيلة البخل، معلناً عن تقديمه محبة ربه على حبه للمال.
ومثل ذلك (عبادة الحجاب) للمرأة، فهو قبل أن يكون رداء خارجياً يواري زينتها ومفاتنها فهو إعلان عن انقيادها التام واستجابتها المطلقة لأمر خالقها
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً). [الأحزاب:59] ولو كان في ذلك مخالفة لهوى نفسها
(وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى). [النازعات:40-41].إن نظرة عميقة في الشريعة الربانية تجلي لنا أنها بجانب عنايتها الفائقة بإصلاح القلوب وتزكية النفوس، فإنها اعتنت كذلك بمسألة صلاح الظاهر، ومن ذلك العناية بشأن اللباس والزي، فليس في الشريعة إهمال لهما أو تهميش لأثرهما في شخصية المسلم، بل إننا نرى تأكيداً على ارتباط اللباس والزي بالأخلاق والسلوك، ومن ذلك مثلاً أنه قد جاء في الحديث لُعن الرجل الذي يلبس لبسة المرأة والمرأة التي تلبس لبسة الرجل، ولو لم يكن للبس الرجل لبسة المرأة (والعكس) تأثير على سلوكهما وأخلاقهما لما جاء الوعيد الشديد الذي وصل إلى درجة الطرد والإبعاد من رحمة الله، كما نجد أن من اهتمام النبي صلَّى اللَّه عليْه وَسَلَّم بشأن الزي الظاهر وإدراك عميق أثره في الباطن أنه أنكر على عبد اللَّه بن عمرو بن العاص -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- لبْسه ثوبين معصفرين معللاً ذلك بقوله: "إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها".
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في شأن تأثير الظاهر على الباطن: "إن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهين، يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس؛ فإن اللابس لثياب أهل العلم ـ مثلاً ـ يجد في نفسه نوع انضمام إليهم، واللابس لثياب الجند المقاتلة ـ مثلاً ـ يجد في نفسه نوع تخلق بأخلاقهم، ويصير طبعه متقاضياً لذلك". ولذا كان مصطفى كمال أتاتورك مدركاً لهذا الملحظ حين فرض القبعة لباساً وطنياً للشعب التركي؛ لأنه أراد بذلك تغيير نفس لا تغيير ملبس؛ إذ إن الملبس يحكم تصرفات الإنسان إلى حد بعيد، وعلى نهجه سار تلاميذه من علمانيي تركيا الذين جعلوا من الحجاب أحد معاركهم الكبرى، وما ذاك إلاّ لأنهم يدركون أن حقيقة الحجاب أكبر من أن تكون قطعة قماش توضع على الرأس أو تقليداً اجتماعياً كسائر التقاليد؛ فهم يدركون أنه رمز كبير ومعلم بارز على التدين الذي أرادوه مستتراً في ضمير المتعبد دون أن يظهر على سلوكه وزيه ومعاملاته.
وإن من الجهل العظيم وقلة البصيرة في الدين أن يظن ظانّ "أنه لا علاقة بين حجاب المرأة وبين أخلاقها!! وأنها قد تكون في قمة أخلاقها وتدينها ولو لم ترتد حجاباً، أو ترتدي حجاباً لعبت فيه خطوط الموضة وضروب الزينة ما جرده من مقصده الشرعي!!". وهذا الوهم وإن كان بعضهم قد صرح به لفظاً فإننا نرى تصريحاً به واقعاً وحالاً من بعض النساء في الأسواق والمجمّعات العامة واللاتي غدا حجاب المرأة منهن مسرحاً للتغيير حسب صرعات الموضة، وأصبحت هذه الأماكن ميداناً للتنافس في إبراز المفاتن ولفت الأنظار واستعراض الجمال، حتى غدا للسوق (مكياجاً) خاصاً به!!
مَن ظن هذا الظن، وأراد بتر العلاقة بين لباس المرأة و حجابها الشرعي، وبين تدينها وأخلاقها، ودعا إلى ترك الحرية لها للتزين بما تشاء ولمن تشاء مادامت واثقة من شرفها وكرامتها!!
مَن ظن هذا الظن هو في الحقيقة يجهل أو يتجاهل أن الحجاب فريضة ربانية وجزءٌ لا يتجزأ من تدين المرأة ...
منقول