دمشق -سانا
عرفت دمشق أشكالاً عديدة من الفرجة الشعبية كانت تلبي جزئياً حاجة الجماعة إلى فن المسرح حيث كانت خيمة خيال الظل فناً مركباً وأكثر تعقيداً من غيرها من الفنون الشعبية التي راجت في العاصمة السورية في القرن التاسع عشر كصندوق الفرجة والحكواتي وسواها.
وكان الكراكوزاتي ومعاونوه ينصبون خيمة الظلال في مقاهي دمشق الشعبية عارضين حكايات ذات أنماط ثابتة وحبكات درامية مرنة تتمدد وتتفاعل بالارتجال مع جمهور المشاهدين ولاسيما في أيام شهر رمضان مقاربةً بذلك أجواء موسم الدراما السورية في أيامنا هذه.
ويذكر الشاعر والأديب فخري البارودي في مذكراته خيمة خيال الظل التي كانت منتشرة في دمشق أوائل القرن العشرين فيقول.. إلى جانب المقاهي كنا نتردد على محلات خيال الظل المعروفة باسم قهوة الكراكوز وهي طليعة فن السينما في بلادنا حيث كان مدير خيمة الكراكوز يضع في صدر المقهى ستارةً من قماش في وسطها قطعة مدورة من الخام الأبيض في أسفلها رف من خشب ينار بزيت الزيتون حيث يقف الرجل المخايل خلف الستارة ممسكاً عصاً رفيعةً يحرك بها دمى من الجلد إذا ظهرت على الشاشة ظهر خيالها مجسماً من عكس النور عليها من الخلف.
ويعتبر الكراكوزاتي ناقدا شعبيا وأديبا حاضر النكتة أعجب ما فيه قدرته تغيير وتيرة صوته ولهجته ومن الكراكوزاتية المشهورين في دمشق "علي حبيب" الذي درب رائد المسرح السوري أبو خليل القباني على أصوات الشخوص التي تتوزع أدوار الفصل حيث تتلمذ الشيخ القباني على معلمه فحفظ منه الموشحات والأدوار وأخذ ما عنده من الأوزان والألفاظ.
ولعل آل حبيب أشهر من مارس هذا الفن في دمشق واستمر هذا الفن فيهم أربعة أجيال بدأ بعلي الحبيب ثم أولاده عبد اللطيف وعلي وخالد ثم أحفاده حبيب وخالد وصالح الحبيب.
وكان الكراكوزاتي يضمن فصوله على لسان شخوصه بغية أن يبث في أذهان مشاهديه من نقد وتجريح أو مدح وطرب مع بعض الحكم و النوادر لاجئاً إلى إشراك المشاهدين أحياناً بإجراء الحوار بين الشخوص الممثلة والمشاهدين في مقاهي دمشق في كل من أحياء ساروجة والقيميرية والعمارة والبحصة الجوانية.
ويلعب الكراكوزاتي الدور الأول والأخير في حركات الرسوم وأشكال ظهورها على الشاشة ذلك أن لكل خيال شكلا مميزا في ظهوره وأهمها شخصية كركوز الذي ينزل على الشاشة طباً على وجهه وشخصية عيواظ الذي يخبط متلعبجاً على مقعده وشخصية المدلل الذي كان يبدو في مسرحيات الظل متدلعاً بخفة ورشاقة إضافةً إلى شخصية أبو الشباب الذي اشتهر بأنه كان مهمهماً متبختراً فضلاً عن شخصية البنت "مغناجة".
ويروي الفنان تيسير السعدي ذكرياته في حديث خاص لوكالة سانا عن خيم خيال الظل أثناء طفولته قائلاً.. تتلمذت على أيدي أبناء شيخ كار الكراكوزاتية علي حبيب وهم أبو عادل وأبو خالد وأبو صياح الذين كانوا يزاولون مهنتهم هذه في سوق ساروجة حيث كان لكل منهم وظيفة يقوم بها في خيمة الكراكوز فأبو خالد كراكوز أدبي وأبو صياح سليط اللسان أما أبو عادل فكان لاعب الخيالات بأسلوب فني.
ويضيف السعدي.. ان المختص بخيال الظل لا يتوقف عمله على تحريك المجسمات خلف شاشة العرض بل كان عليه أن يكون ملماً ومتقناً لأداء الأدوار والموشحات والمقامات الموسيقية لما كان يتطلبه هذا الفن من إدخال الأغاني والأناشيد عبر تخت شرقي يصاحب فصول المسرحية الظلية التي تقدم للجمهور.
ويوضح السعدي أن حفلات خيال الظل في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الفائت كانت تقدم في دمشق مرتين يومياً الأولى بعد الظهر ومخصصة للصغار والثانية مسائية للكبار لافتاً الى أنه في صغره تأثر كثيراً بشخصية المدلل الذي كان على غير اسمه في فصول خيال الظل حيث كان المدلل طفلاً مشرداً يتيم الأب والأم عاش حياته كلها بين الأزقة.
ومن أبرز الفصول في خيال الظل فصول الطاحون والحمام وآيا صوفيا وشمأرين واليهودي حيث كانت هذه الفصول وغيرها من أبرز مسرحيات فن الكراكوز الذي اعتبره الدارسون أصلا من أصول المسرح العربي لما كان يعبر في شروط عرضه عن كمال في عناصر اللعبة المسرحية ولما امتاز به هذا الفن من انفتاح على الجمهور وقدرة استثنائية بإشراكه في العملية المسرحية عبر توريط المتفرج بالحكاية وإيهامه بواقعيتها من خلال الظلال المتحركة على طول فترة العرض وتعدد الأصوات.
وفي معظم الأحيان كان يساعد الكراكوزاتي تخت موسيقي يتصدر المكان إلى جانب الخيمة يتكون من صويت /مغن/ ورقجي /طبال/ وقانونجي /عازف قانون/ و لاعب قصب "نافخ ناي "حيث تعمل هذه الجوقة بإمرة الكراكوزاتي حسب طبيعة المشهد وشخوصه.
وكان لمسرح الظل أهمية بالغة إذ يذكر لنا ابن عربي شيخ الصوفية في فتوحاته المكية فيقول.. ومن أراد أن يعرف حقيقة ما أومأنا إليه فلينظر في خيال الستارة وصوره ومن الناطق بها فالصغار يفرحون ويطربون والغافلون يتخذونه لهواً والعباد العلماء يعتبرون ويعلمون أن الله ما نصب هذا إلا مثلاً.
وتميز فنان خيال الظل بشخصية ذكية وقدرة على محاكاة اللهجات وحفظ أسماء المدن والأماكن بالإضافة إلى سرعة بديهته وخبرته الفنية في الارتجال السريع أثناء مخاطبة الجمهور بالحوار المتقن وموهبته الخاصة في سلسلة الأحداث مع حركة الدمى حسب حالتها النفسية ومآزقها الدرامية التي كان يرويها من خلف الستارة بأصوات متعددة النبرة ملوناً بين الشخوص التي يحركها وينطقها بلسان حالها.
سامر اسماعيل