السؤال الأول: ما تفسير هذه الاية وما رقمها ومن اي سورة
{ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }
الجواب :
رقم الآية 177 من سورة البقرة
التّفسير
أساس البّر
ذكرنا في تفسير آيات تغيير القبلة، أن النصارى كانوا يتجهون في عباداتهم (497)
نحو الشرق واليهود نحو الغرب، وقرر الله الكعبة قبلة للمسلمين، وكانت في اتجاه الجنوب وسطاً بين الإِتجاهين.
ومرّ بنا الحديث عن الضّجة التي أثيرت بين اعداء الإسلام والمسلمين الجدد بشأن تغيير القبلة.
الآية أعلاه تخاطب هؤلاء وتقول: (لَيْسَ الْبِرَّ أن تُوَلُّوا وَجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ).
«البرّ» في الاصل التوسّع، ثم أُطلق على أنواع الإِحسان، لأن الإِنسان بالإحسان يخرج من إطار ذاته ليتسع ويصل عطاؤه إلى الآخرين.
و«البّر» بفتح الباء، فاعل البرّ، وهي في الأصل الصحراء والمكان الفسيح، وأطلقت على المحسن بنفس اللحاظ السابق.
ثمّ يبين القرآن أهم أصول البّر والإحسان وهي ستة، فيقول: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ).
هذا هو الأساس الأوّل: الإِيمان بالمبدأ، والمعاد، والملائكة المأمورين من قبل الله، والمنهج الإِلهي، والنبيّين الدعاة إلى هذا المنهج. والإِيمان بهذه الأُمور يُضيء وجود الإِنسان، ويخلق فيه الدافع القوي للحركة على طريق البناء والأعمال الصالحة.
جدير بالذكر أن الآية تقول: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ...) ولم تقل ولكن البَرَّ بفتح الباء، أو البار بصيغة اسم الفاعل. أي أن الآية استعملت المصدر بدل الوصف، وهذا يفيد بيان أعلى درجات التأكيد في اللغة العربية. فحين يقول أحد: عليٌ(عليه السلام)هو العدل في عالم الإنسانية. فهو يقصد أنه عادل للغاية وأن العدالة قد ملأت وجوده بحيث أن من يراه فكأنما لايرى سوى العدالة متجسدة. وحين يقول: بني أُمية ذلّ الإِسلام، فيعني أن كل وجودهم ذلّ للإِسلام.
ثم تذكر الآية الإِنفاق بعد الإِيمان، وتقول: (وَآتَى الْمَالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى (498) والْيَتَامى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ).
إنفاق المال ليس بالعمل اليسير على الجميع، خاصة إذا بلغ الإِنفاق درجة الإِيثار، لأن حبّ المال موجود بدرجات متفاوتة في كل القلوب. وعبارة (عَلى حُبِّهِ) إشارة إلى هذه الحقيقة. هؤلاء يندفعون للإِنفاق رغم هذا الحبّ للمال من أجل رضا الله سبحانه.
الآية عددت ستة أصناف من المحتاجين إلى المال:
ذكرت بالدرجة الاُولى ذوي القربى، ثم اليتامى والمساكين، ثم أُولئك الذين اعترتهم الحاجة مؤقتاً كابن السبيل وهو المسافر المحتاج، ثم تذكر الآية بعد ذلك السائلين إشارة إلى أنّ المحتاجين ليسوا جميعاً أهل سؤال. فقد يكونون متعففين لا تبدو على سيمائهم الحاجة. لكنهم في الواقع محتاجون، وعن هؤلاء قال القرآن في موضع آخر: (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفّفِ)(1).
ثم تشير الاية إلى الرقيق الذين يتعطشون إلى الحرية والاستقلال بالرغم من عدم احتياجهم المادي وتأمين نفقتهم على عهدة مالكيهم.
والأصل الثالث من أصول البرّ: إقامة الصلاة: (وَأَقَامَ الصَّلاَةَ). والصلاة إن أدّاها الفرد بشروطها وحدودها، وباخلاص وخضوع، تصده عن كل ذنب وتدفعه نحو كل سعادة وخير.
والأصل الرابع: أداء الزكاة والحقوق المالية الواجبة: (وَآتَى الزَّكَاةَ).
فالآية سبق أن ذكرت الإِنفاق المستحب، وهنا تذكر الإِنفاق الواجب. بعض النّاس يكثر من المستحبات في الإنفاق ويتساهل في الواجب، وبعضهم يلتزم بالواجب فقط ولا ينفق درهماً في إيثار. والمحسنون الحقيقيون هم الذين ينفقون
السؤال الثاني: ماهي هذه الايات
العمل في القرآن
وردت في القرآن الكريم ( 360 ) آية تحدثت عن العمل ووردت ( 190 ) آية عن ( الفعل ) وهي تتضمن أحكاماً شاملة للعمل ، وتقديره ومسؤلية العامل وعقوبته ومثوبته (1) ولا بد لنا من عرض بعض الآيات التي حثت على العمل الصالح الذي
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالآيات التي حثت على العمل وتحدثت عنه في كتاب الله تعالى كثيرة جداً، منها قوله تعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ {الزخرف:72}، ومنها قوله تعالى: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا {الكهف:110}، ومنها قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ {الملك:2}، وقوله تعالى في آخر سورة الكهف: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا {الكهف:107}، وقوله في سورة الزلزلة: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ* فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ* وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ {الزلزلة:6-7-8}، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تحدثت عن العمل في كتاب الله، وللوقوف عليها كاملة انظري المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.
والله أعلم.
العمل وحقوق العامل في الاسلام ::: 121 ـ 135
(121)
ولا بد من استيفاء تعويض الضرر من أمواله الخاصة ، كما إنه اذا كان بقصد الاضرار والعدوان ، فان الشارع توعده بالعقاب والعذاب في دار الآخرة.
إن الاسلام أوجب على كل شخص إحترام أموال الغير واجتناب ضرره ، وان من يخل بهذا الواجب يعتبر عمله غير مشروع ، ويعرض نفسه للمسؤلية ، ولتحمل الاضرار الناجمة من اعتدائه.
وعلى أي حال فقبل الدخول في بيان أحكام العمل وأنواعه لا بد لنا من عرض ما ورد عن العمل في القرآن الكريم وفي السنة :
1 ـ العمل في القرآن
وردت في القرآن الكريم ( 360 ) آية تحدثت عن العمل ووردت ( 190 ) آية عن ( الفعل ) وهي تتضمن أحكاماً شاملة للعمل ، وتقديره ومسؤلية العامل وعقوبته ومثوبته (1) ولا بد لنا من عرض بعض الآيات التي حثت على العمل الصالح الذي
1 ـ الاسلام : ص 154.
(122)
يترتب عليه الثواب والمغفرة من اللّه كما لا بد من عرض الآيات الأخر التي حثت على لزوم السعي والكسب لتحصيل الرزق ، والى القراء ذلك :
1 ـ العمل الصالح
إن العمل الصالح شعار الاسلام وهدفه الاسمى.
انه رمز عظمة هذا الدين الذي أقام العدل ، وبسط الخير ونشر المحبة بين الناس.
انه عنوان الدعوة الاسلامية الخالدة التي أعلنها المنقذ الأعظم محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم فجعل العمل الصالح جوهرها وحقيقتها التي لا تنفصل عنه.
إنه نشيد الابرار والعظماء والمصلحين من أبناء القرآن.
إنه صلاح القلوب ، وسلامة النية ، وطهارة النفس ، وأصل التسامح والتعاون على البر والتقوى.
إنه أساس الامتياز بين الناس في نظر الاسلام ، فليس التفوق بكثرة الأموال ، ولا بالمتع الزائلة ، وإنما هو بالتقوى وعمل الخير « إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم ».
ولنستمع الى الآيات الكريمة التي أشادت بالعمل الصالح ، ورفعت من كيان الصالحين.
(123)
قال اللّه تعالى : ( ومن أحسن قولاً ممن دعا الى اللّه ، وعمل صالحاً وقال انني من المسلمين ) (1).
وقال تعالى : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً ) (2).
وقال تعالى : ( من عمل صالحاً من ذكر وانثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ، ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) (3).
وقال تعالى : ( ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو انثى وهو مؤمن فاولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً ) (4).
وقال اللّه تعالى : ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً وعد اللّه حقاً ومن أصدق من اللّه قيلا ) (5).
وقال تعالى : ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً
1 ـ سورة حم السجدة : آية 32.
2 ـ سورة الكهف : آية 6.
3 ـ سورة النحل : آية 66.
4 ـ سورة النساء : آية 23.
5 ـ سورة النساء : آية 21.
(124)
ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) (1).
وقال تعالى : ( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً اني بما تعملون عليم ) (2).
وقال اللّه تعالى : ( واني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى ) (3).
وقال تعالى : ( الذين يعملون الصالحات إن لهم أجراً كبيراً ) (4).
وقال اللّه تعالى : ( ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله انه لا يحب الكافرين ) (5).
الى غير ذلك من الآيات الكريمة التي دعت الناس الى العمل الصالح وحفزتهم الى كسبه والتسابق اليه ، وانه خير ما يكتسبه الانسان في حياته فانه ذخر له في آخرته وشرف له في دنياه.
1 ـ سورة الكهف : آية 111.
2 ـ سورة المؤمنون : آية 52.
3 ـ سورة طه : آية 81.
4 ـ سورة الاسراء : آية 8.
5 ـ سورة الروم : آية 44.
(125)
2 ـ الحث على الكسب
لقد أعلن القرآن الكريم دعوته الأكيدة على ضرورة العمل ، وعلى الكسب ، وبذل الجهد قال اللّه تعالى : ( فاذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض ، وابتغوا من فضل اللّه ، واذكروا اللّه كثيراً لعلكم تفلحون ) (1).
إن المنهج الاسلامي يتسم بالتوازن بين العمل لمقتضيات الحياة في الأرض ، وبين العمل في تهذيب النفس ، والاتصال باللّه تعالى وابتغاء رضوانه ، والى ذلك يشير القرآن الكريم : ( وابتغ فيما آتاك اللّه الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ) (2) انه ليس من الاسلام في شيء أن يتجه المسلم بجميع قواه وطاقاته لتحصيل متع الحياة ، والظفر بملاذها وينصرف عن اللّه ، وكذا لا يتجه نحو عمل المثوبة فحسب بل عليه أن يعمل لدنياه وآخرته معاً.
إن القرآن الكريم قد دعا الناس الى العمل ، وحثهم عليه وحتم عليهم أن يكونوا ايجابيين في حياتهم يتمتعون بالجد والنشاط ليفيدوا ويستفيدوا ، وكره لهم الحياة السلبية ، والانكماش
1 ـ سورة الجمعة : آية 10.
2 ـ سورة القصص : آية 76.
(126)
والانزواء عن العمل ، قال تعالى : ( فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه واليه النشور ) (1).
إن اللّه تعالى خلق الارض ، وملأها بالنعم والخيرات لاجل أن يعيش الانسان في رفاهية وسعة قال تعالى : ( وآية لهم الارض الميتة أحييناها ، وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب ، وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون ) (2) ولن يظفر الانسان بهذه النعم إلا بالعمل والجد والكسب.
2 ـ العمل في السنة
واستفاضت كتب الحديث والاخبار بالدعوة الى العمل والحث عليه كما أضفت عليه أسمى النعوت والاوصاف ، ونقدم للقراء عرضاً موجزاً لذلك :
(أ) العمل شرف
إن العمل وان هان فانه شرف للانسان ، وكرامة ، وخير
1 ـ سورة الملك : آية 15.
2 ـ سورة يس : آية 33 و 34 و 35.
(127)
له من أن يسأل الناس ويعيش كلاً عليهم والى ذلك يشير الحديث الشريف.
( لئن يأخذ أحدكم حبله ، فيذهب به الى الجبل فيحتطب ثم يأتي به فيحمله على ظهره خير له من أن يسأل الناس ) (1).
واجتاز الاصمعي على اسكافي يصلح للناس أحذيتهم وهو ينشد :
واكرم نفسي انني ان أهنتها وحقك لم تكرم على أحد بعدي
فقال له الاصمعي :
كيف اكرمتها وهذا عملك ؟!!
فسدد له سهماً وقال له :
( لقد اكرمتها حين أغنيتها عن سؤال لئيم مثلك ).
ويقول الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم : ( من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه ) ان الاسلام لا يرضى للمسلم أن يعيش عالة على الغير ، ولا يسمح له أن يترك الكسب ويتكل على الدعاء ليرزقه اللّه من غير عمل ، فقد جاء في الحديث الشريف : ( ان اللّه يكره العبد فاغرا فاه يقول : يا رب ارزقني ) (2).
1 ـ صحيح البخاري.
2 ـ مجمع البحرين.
(128)
إن اللّه تعالى خلق الاشياء وربطها باسبابها الطبيعية ، وليس للانسان أن يترك ذلك لأنه يلزم منه الاخلال بالنظام وعدم استقامة الحياة.
(ب) العمل جهاد
إن الاسلام يعتبر العمل جهاداً في سبيل اللّه ، ويعتبر الجهد الذي يبذله المسلم في سبيل إعاشة عائلته من أفضل الطاعات والقربات فقد روى زكريا بن آدم عن الامام أبي الحسن الرضا (ع) انه قال :
( الذي يطلب من فضل اللّه ما يكف به عياله أعظم أجراً من المجاهد في سبيل اللّه ) (1). واجتاز النبي (ص) ومعه جماعة من أصحابه برجل ، فرأى الصحابة من جده ونشاطه ما اعجبهم فالتفتوا الى النبي (ص) فقالوا له :
يا رسول اللّه ، لو كان هذا في سبيل اللّه ؟
فاجابهم (ص) :
« إن كان خرج يسعى على ولده فهو في سبيل اللّه ، وان كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل اللّه
1 ـ الوسائل كتاب التجارة ، التهذيب كتاب المكاسب.
(129)
وان كان خرج يسعى على نفسه فهو في سبيل اللّه ».
إن السعي للانفاق على النفس ، وعلى الابوين وعلى الاولاد من العمل في سبيل اللّه ، بل من أفضل أنواع العبادات والطاعات.
إن الاسلام يعتبر العمال أعظم أجراً من المجاهدين ، وقد قدمهم القرآن الكريم في الذكر على المجاهدين قال اللّه تعالى : ( فاقرؤا ما تيسر من القرآن ، علم ان سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الارض يبتغون من فضل اللّه وآخرون يقاتلون في سبيل اللّه ) (1).
وكم في هذا التقديم من معاني التكريم والتبجيل والتقدير ، لقد اعتنى الاسلام بالعمل عناية بالغة فاعتبره جهاداً في سبيل اللّه ، لانه أراد للمسلمين أن يعيشوا عيشة هانئة يسودها الخير والرفاهية ، ولن يظفروا بذلك إلا اذا عملوا في حقل هذه الحياة.
(ج) العمل عبادة
وأضاف الاسلام الى العمل اكرم النعوت والاوصاف فجعله عبادة وطاعة للّه ليتسابق المسلمون الى ميادين العمل والانتاج فقد ورد ان صحابيين جاءا الى رسول اللّه (ص)
1 ـ سورة المزمل : آية 19.
(130)
وهما يحملان أخاً لهما ، فسألهما النبي (ص) عنه فقالا : انه لا ينتهي من صلاة إلا الى صلاة ، ولا يخلص من صيام إلا الى صيام حتى أدركه من الجهد ما ترى.
فقال (ص) : فمن يرعى ابله ، ويسعى على ولده ؟
فقالا : نحن
فقال (ص) : أنتم أعبد منه.
إنه ليس من الاسلام في شيء أن نزهد في الدنيا ، وندع متع الحياة ، ونقبل على الصلاة والصيام ، فقد نعى اللّه على الذين انصرفوا عن الدنيا فقال تعالى : ( ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان اللّه فما رعوها حق رعايتها ) (1).
ويقول تعالى : ( قل من حرم زينة اللّه التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ) (2).
إن الاسلام دعانا الى أن نمزج بين الدنيا والآخرة مزجاً كريماً ، فليس من الاسلام أن تكون الدنيا وحدها هي همنا
1 ـ سورة الحديد : آية 27.
2 ـ سورة الاعراف : آية 31.
(131)
وغايتنا ، وليس من الاسلام أن نقبل على الاخرة فنضيع دنيانا ، والى ذلك يشير الحديث :
« إعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً » وبهذه الدعوة الأصيلة التي تجمع بين العمل للدنيا والعمل للآخرة امتاز الاسلام عن بقية الأديان الداعية بعضها الى القداسة والتجرد عن المادة ، والداعية بعضها الى الاقتصار على مطالب الجسد والغاء الروح.
لقد أعرب الرسول (ص) في غير موقف من مواقفه ان رسالته الخالدة تدعو الى الوئام بين الروح والبدن ، فقد ورد ان ثلاثة رهط جاؤا الى بيوت أزواج النبي (ص) يسألون عن عبادته فلما أخبروا بها قالوا : وأين نحن من النبي ، وقد غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فانبرى أحدهم فقال لصاحبيه :
« أنا اصلي الليل أبداً ».
وانطلق الثاني يقول :
« وأنا أصوم الدهر أبداً ».
فقال الثالث :
« وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً ».
(132)
فبلغ ذلك النبي (ص) فقام وهو مغيظ الى المسجد فاعتلى أعواد المنبر وأخذ يبين للمسلمين بُعد هؤلاء عن الصواب وعدم التقاء خطتهم بواقع الاسلام ، فقال (ص) : بعد حمد اللّه والثناء عليه « ما بال أقوام ، قالوا كذا وكذا ، أما واللّه اني لأخشاكم للّه وأتقاكم لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء وتلك سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني » (1).
وسأل الامام الصادق (ع) عن رجل ، فقيل أصابته الحاجة ، فقال (ع) :
ـ فما يصنع اليوم ؟
ـ في البيت يعبد ربه عز وجل.
ـ فمن أين قوته ؟
ـ من عند بعض إخوانه ؟
ـ واللّه الذي يقوته أشد عبادة منه (2).
هذا هو رأي الاسلام وهو صريح واضح يقضي بأن يعمل المسلم لدنياه وآخرته ، وليس له أن يتجرد من الدنيا ويقبل على الآخرة كما ليس له أن يقبل على الدنيا ويتجرد عن الآخرة.
1 ـ صحيح البخاري.
2 ـ تذكرة الفقهاء.
(133)
(د) العمل سيرة الانبياء
إن العمل من سيرة النبيين والمصلحين ، ويكفي العامل فخرا وشرفاً أنه ما الظلم والطغيان نبي إلا كان عاملاً كادحاً فقد روى الامام الصادق عليه السلام عن جده أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال : « إن اللّه أوحى الى داود (ع) يا داود إنك نعم العبد لولا أنك تأكل من بيت المال ، ولا تعمل بيدك شيئاً ، قال : فبكى داود أربعين صباحاً فأوحى اللّه الى الحديد أن لِنْ لعبدي داود فلان له الحديد فكان يعمل في كل يوم درعاً » (1).
لقد كره اللّه لعبده ونبيه داود أن يكون عاطلاً ويأكل من بيت المال من دون أن يكدح ويأكل من ثمرة أتعابه فألانَ له الحديد فكان يعمل فيه ويقتات من عمله ، وكان سيد النبيين محمد (ص) ، قبل البعثة يرعى الأغنام ويتجر في أموال خديجة ، وبعد الالظلم والطغيانة كان يعمل مع أصحابه ويشاركهم في أتعابهم وأعمالهم ، فلم يكن له تفوق وتميز عليهم فقد عمل معهم في بناء مسجده الأعظم ، وكان الانصار يرددون :
لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل
ولما رجع (ص) من بعض غزواته كانت معه شاة فقال
1 ـ التهذيب كتاب المكاسب.
(134)
بعض أصحابه : علي ذبحها ، وقال ثان : علي سلخها ، وقال ثالث وعلي طبخها ، فقال (ص) وعلي جمع الحطب ، وقام (ص) يجمع الحطب من تلك الصحراء (1).
وهكذا كان النبي (ص) يعمل ويشارك أصحابه في أتعابهم ويتعاون معهم في شؤون هذه الدنيا ، وكان الامام أمير المؤمنين علي (ع) يعمل بيده فقد روى حفيده الامام الصادق عليه السلام ان أمير المؤمنين اعتق الف مملوك من ماله وكد يده (2) وقد اقتدى أبناؤه بسيرته فكان الامام أبو جعفر محمد الباقر عليه السلام يعمل بنفسه ، فقد حدث محمد بن المنذر قال : خرجت الى بعض نواحي المدينة ، فلقيني أبو جعفر محمد بن علي (ع) وكان بادناً ثقيلاً ، وهو متكئ على غلامين أسودين ، وموليين ، فقلت في نفسي : سبحان اللّه شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحالة في طلب الدنيا!! أما اني لأعظنه ، فدنوت منه فسلمت عليه ، وهو يتصاب عرقاً ، فقلت له :
أصلحك اللّه شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة في طلب الدنيا!! أرأيت لو جاء أجلك على هذه الحالة ما كنت
1 ـ البخاري.
2 ـ التهذيب ، الوسائل.
(135)
تصنع ؟ فأجابه الامام (ع) بمنطق الاسلام وروحه قائلاً :
« لو جاءني الموت وأنا في طاعة من طاعات اللّه عز وجل أكف بها نفسي وعيالي عنك وعن الناس ، وإنما كنت أخاف أن لو جاءني الموت وأنا على معصية من معاصي اللّه ».
فخجل محمد ، ولم يجد منفذاً يسلك فيه للجواب ، وانبرى يقول : « صدقت يرحمك اللّه أردت أن أعظك فوعظتني » (1).
إن العمل طاعة من طاعات اللّه ـ على حد تعبير الامام (ع) ـ لأن به كف النفس وكف من يعول بها عما في أيدي الناس.
إن الاسلام يتطلب الرفاهية للمسلمين ولا تحصل إلا بالعمل والاستغناء عن الناس.
وحرض أئمة أهل البيت (ع) المسلمين على العمل فكانوا يعملون بأنفسهم ليقتدي بهم المسلمون