الإسقاط النفسي: من ملفات العلاج المرضي
الإسقاط النفسي: رمتني بدائها وانسلت.
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه - - - - وصدق ما كان يعتاده من توهم
ما فعلته امرأة عزيز مصر مع يوسف عليه السلام حين راودته عن نفسه، لما رأت زوجها عند الباب قذفت يوسف عليه السلام بدائها وانسلت من قبيح صنيعها، مع استنكار وتحريض على معاقبة يوسف عليه السلام. الإسقاط هو حيلة من الحيل الدفاعية، يلجأ إليها الفرد للتخلص من تأثير التوتر الناشئ في داخله. وهو عملية نقل، يدرك الفرد خلالها دوافعه وعيوبه وأخطائه وصفاته المعيبة في الغير بقصد وقاية نفسه من القلق الذي ينشأ من إدراكها في نفسه، وبعبارة أخرى أنه ينكر وجود النواقص في نفسه. وقد ظهرت كلمة إسقاط لأول مرة في علم النفس عام (1894) م عندما كتب فرويد مقالةً له عن عصاب القلق ومنذ ذلك الحين اتسع استخدامها ليشمل العديد من ألوان السلوك. هناك الكثير من البشر تداهمه نوبة انفعال شديد كان سببها ردود أفعال غير مسيطر عليها حتى احتقنت في النفس لحين من الزمن وانفجرت كتلة واحدة أمام اقرب الناس مشحوناً بانفعالات سببها له شخص ما، وتلقى منه التعنيف أو الكلمات الجارحة أو التوبيخ وبدوره هذا الرجل/المرأة ظلت هذه الانفعالات تشحن في داخله لحين وصوله إلى بيته أو إلى عيادة العلاج حيث ينفجر ويسقط مشاعر التعنيف والاحتقان الشديدة بوجه الناس وهو النصر الأضعف في دائرة حياته. وهكذا نجد أن هذه الآلية الدفاعية "الميكانزم" لها أثرها في حياتنا وهي حيلة دفاعية.
إذن الإسقاط Projection آلية نفسية شائعة يعزو الشخص بوساطتها أو عن طريقها للآخرين أحاسيس وعواطف ومشاعر يكون قد كبتها بداخله. ونلاحظ أن هناك العديد من الأمثلة في حياتنا اليومية ونعايشها وندرك من خلالها سلوك الآخرين، ومن أمثلة ذلك أن الرجل الذي يخون زوجته كثيراً ما يتهم زوجته بالخيانة ويشك فيها كثيراً أو الزوجة الخائنة التي دأبت على كبت ميولها إلى اقتراف الزنا، تصبح على درجة مبالغ فيها من الغيرة بحيث تتهم زوجها بالخيانة. ويمكن أن تحدث أوهام الأضطهاد من خلال الشعور بالذنب الذي يحمل الشخص على تخيل الآخرين وكأنهم يتكلمون عنه ويلقون بالإتهامات عليه. يشير الإسقاط أولاً إلى حيلة لا شعورية من حيل دفاع الأنا بمقتضاها ينسب الشخص إلى غيره ميولاً وأفكاراً مستمدة من خبرته الذاتية يرفض الأعتراف بها لما تسببه من ألم وما تثيره من مشاعر الذنب. فالإسقاط بهذه المثابة وسيلة للكبت أي أسلوب لأستبعاد العناصر النفسية المؤلمة عن حيز الشعور. إن العناصر التي يتناولها الإسقاط يدركها الشخص ثانية بوصفها موضوعات خارجية منقطعة الصلة بالخبرة الذاتية الصادرة عنها أصلاً. فالإدراك الداخلي يلغى ويصل مضمونه إلى الشعور عوضاً عنه في شكل إدراك صادر عن الخارج بعد أن يكون قد لحقه بعض التشويه.
هل إسقاط المشاعر تعيد التوازن إلى النفس أم تكشف أسرار وخفايا وحقيقة الشخصية، فالفرد الذي يخاف من نزعاته العدوانية والجنسية يصيب شيئاً من التخفف من قلقه حين ينسب هذه النزعات العدوانية والجنسية إلى غيره من الناس، ولا شعوره: يقول أنهم هم الذين يميلون إلى العدوان وهم الذين يفكرون بالاعتداء على الناس لا أنا، كما يعتقد، وهو إسقاط مشاعر دفينة في النفس يلصقها الفرد بالآخرين. إن الإسقاط حيلة نفسية ينسب فيها الشخص سماته الذاتية وعواطفه وميوله لموضوعات بيئته من أشخاص، فالإسقاط لا يقصر على كونه حيلة دفاعية وإنما يفهم بالمعنى الواسع للفظه. إن الأفراد الذين يستخدمون الإسقاط هم أشخاص على درجة السرعة في ملاحظة وتجسيم السمات الشخصية التي يرغبونها في الآخرين ولا يعترفون بوجودها في أنفسهم. ويظن الكثير من الناس أن هذه الإستراتيجية أو الحيلة الدفاعية تقلل من القلق الناتج من مواجهة سمات شخصية مهددة، وتظهر هنا مرة أخرى آلية القمع أو الكبت. إن الأفراد العدوانيين الذين لا يدركون مدى شرههم الجنسي يلاحظون ذلك في الآخرين. إن آلية الإسقاط هي آلية نفسية لا شعورية بحتة وهي عملية هجوم لاشعوري يحمي الفرد بها نفسه بإلصاق عيوبه ونقائصه ورغباته المحرمة أو المستهجنة بالآخرين. كما إنها عملية لوم الآخرين على ما فشل هو فيه بسبب ما يضعونه أمامه من عقبات وما يوقعونه فيه من زلات أو أخطاء، فيقول الشخص في لا شعوره: أنا اكره شخص ما ولكني أقول هو يكرهني، هنا أريد أن أخفف من أثمي ومشاعري الدفينة تجاه ذلك الشخص. إذا ما قارنا الإسقاط بالتبرير، وكلاهما حيل دفاعية يلجأ إليها الفرد فأننا نجد أن الإسقاط عملية دفاع ضد الآخرين في الخارج، أما التبرير فهي عملية كذب على النفس. إن الإسقاط أذا كان قائماً على شعور عنيف بالذنب أدى إلى حالة اضطراب البرانويا أو ما يصاحبه من هذيان وهلوسة. ففي المرض العقلي "الذهان" يسقط المريض رغباته ومخاوفه على العالم الخارجي وفي الهذاءات يعتقد المريض أن جميع الناس ضده ويريدون أن ينالوا منه، وهي مشاعر إسقاطية لا أساس لها في الواقع.
الإسقاط هي حيلة دفاعية ينسب فيها الفرد عيوبه ورغباته المحرمة والعدوانية أو الجنسية للناس حتى يبرأ نفسه ويبعد الشبهات عنها، فالكاذب يتهم معظم الناس بالكذب، والمرأة التي تحب جارها قد تتهمه بمغازلتها. الإسقاط هو إعطاء الآخرين صفات سلبية توجد في الشخص الذي يتقول عليهم. والإسقاط قد يؤدى إلى عدوان مادي في صورة جرائم، فمثلا الموظف الذي يحمل مشاعر عدوانية نحو رئيسه قد يسقط هذه المشاعر عليه ويتصور أن رئيسه يكيد له ويتربص به لكي يؤذيه ومن ثم يبادر بالهجوم والاعتداء عليه. وهكذا تدفع هذه الحيلة المضربين إلى نسبة ما في أنفسهم إلى الناس والتعامل معهم على هذا الأساس, ومن ثم يقومون بأرتكاب جرائم فعلية.
إن الإسقاط هو أن الصق السبب في شيء ما إلى احد ما، أي أن احمل مسؤولية فشلي مثلا لأحد ما أو لوضع ما. الإسقاط هي العملية التي ينبذ فيها الشخص من ذاته بعض الصفات والمشاعر والرغبات وحتى بعض الموضوعات التي يتنكر لها أو يرفضها في نفسه، كي يلصقها في الآخر، سواء أكان هذا الآخر شخصا أم شيئا. فالشخص الذي يقوم بهذه الحيلة النفسية يرمي علته من عيب أو خطأ أو تقصير أو رغبات غير مقبولة أو مخاوف أو غير ذلك، فيسقطها على غيره من الناس أو الأشياء ويتملص من تبعات الأعتراف بالخلل الذي فيه شعور بالنقص أو الخزي أو المهانة أو القلق أو التوتر والفضيحة.
وقد يفسر أعمال الآخرين وتصرفاتهم بحسب ما يجري في نفسه من سوء ظن وريبة في غيره فيلصق بهم سوء ظنه ويتهم نياتهم ويلتمس عثراتهم ويفتش عن عوراتهم، وأحياناً يبالغ في تضخيم صورة العيوب التي يسقطها على غيره فيصورها صورة مكبرة دقيقة التفاصيل مملوءة بالتنفير والإستهجان وتحريض الآخرين على كرهها واستنكارها فهو يسعى بهذا الإسقاط النفسي إلى تبرئة نفسه من العيب الذي يقلل من شأنها وينقص من قدرها، بينها وبين ذاتها وأمام الناس. كما يوجد الإسقاط عذراً للشخص كي يفرغ غيظه على غيره ولا سيما الأشخاص الذين يواجهونه بعيوبه حيث يبادر بقوة طرد إسقاطية شديدة تلقي بتلك المواجهات على مصدرها الذي جاءت منه. وعملية الإسقاط النفسي هذه تشبه إلى حد كبير عمل الفانوس التعليمي (البروجكتر) الذي توضع عليه الشفافيات البلاستيكية وما فيها من معلومات فيقوم بتسليط الضوء عليها وتكبيرها وإسقاطها على الحائط المقابل وكأن الصورة تنتمي إلى الحائط بينما هي في هذا الجهاز الذي يخرج ما بداخله يسقطه على غيره. فكم في الناس اليوم من فانوس وفانوس مابين مقل ومستكثر من الإسقاط النفسي.
المكثرون من الإسقاطات هم ضعاف الثقة في النفس، الثقة الحقيقة الداخلية لا الثقة الخارجية المصطنعة، وإن أوهموا من حولهم أنهم واثقون بأنفسهم، ويكثر الإسقاط في هؤلاء كلما ضعفت المعنويات وزاد الإحباط. المتصفون بالإعتداء بالرأي والأنفه الزائدة، الميالون للجدل والمراء والعناد والتحدي والخصومة، المتصفون بالشك والريبة والحذر الزائد من الناس. أما الإسقاط اليسير وغير المتكرر فقلما يسلم منه أحد وليس له دلالة على شخصية معينة وأكثر ما يكون في حالات خيبة الأمل وفي الإسقاط على الزمن والظروف المحيطة بالشخص. يتبين لنا أذن أن الإسقاط النفسي هو مجموعة من التبريرات والأعذار التي تُلقى من الشخص المريض على من حوله سواءً كانوا أشخاصاً بعينهم أو على أحوال وظروف تجري من حوله، ومقصده من إلقاء هذه التبريرات والأعذار هو التهرب من المسؤولية والفشل أو الخلل الذي وقع به في ناحية من نواحي حياته.
من خلال يوميات مهنتك قد تكون ممن يقع في هذه الآفة، وقد تكون ممن يتعرض لخطرها وتصبح كبش الفداء. فلمعرفة الإنسان الذي يعاني من الإسقاطات النفسية كل ما عليك فعله هو النظرة بتأمل في جزئيات تصرفاته لتكتشف فيها تناقضات ليست بالسهلة، أضف إلى هذا أنه يحذر بشكل واضح من سلوكيات يقع فيها هو نفسه، الطفل الجبان دائما ما تراه يتكلم عن جبن زملائه كل هذا ليحاول إسقاط حالته على الآخرين، ويكون الأمر في النهاية كلنا في الهواء سواء.
ليس عيبا أن يكون الإنسان ضعيفا في سلوك من سلوكياته، قد يقع في معصية، وربما يكون فيه خصلة سيئة كالجبن والكذب، العيب هو أن يسقطها على غيره ظلما وعدوانا، ويظهر نفسه بالضحية ذات الأخلاق الحميدة. عيوب الإنسان إذا كانت تضره دون سواه فالأمر هين، المشكلة أن ينقل الإنسان أزماته ومشاكله التي يعانيها وظروفه النفسية وحالة الاضطراب النفسي التي يعانيها إلى الخارج، وبخاصة إلى المحيط الذي يشعر بأنه يخنقه، بينما هو لا يدري أنه يحاول بنفسه خنق كل من حوله لأعتقاده أن إسقاط أمراضه النفسية أو فشله أو سلوكياته السيئة على غيره يفتح له آفاق الراحة النفسية. فالإسقاط في الاختبار النفسي يختلف عنه في التحليل النفسي أو في غيره من المدارس. فالإسقاط في الاختبارات ما هو إلا مجرد أداة لاستشفاف الشخصية وليس مفهوما متكاملا كما في التحليل النفسي. والإسقاط هو آلية نفسية معقدة من الممكن أو يؤدي تبسيطها إلى تنامي احتمالات اللبس. فالتفسيرات المبسطة لمفهوم الإسقاط هي تفسيرات غائمة وأحيانا مغلوطة تماما. إن الإسقاط هو الميل لفهم العالم المحيط بنا، بما فيه الآخرين وتصرفاتهم، إسنادا إلى عواملنا الداخلية مثل حالتنا المزاجية، مصالحنا، عاداتنا وأهوائنا. أما إلصاق سبب الشيء في شخص آخر فهو أقرب إلى التبرير في استمرار ممارسة الشيء نفسه.
من تجده يمارس كل طقوس تصفية الحسابات والإقصاء والاستبعاد فأعلم أن هذا إسقاط نفسي، وأنه يعاني من غلظة التصرف وحدة الطبع. كل هذا ناتج من المعاناة التي يعانيها هذا الإنسان، فهو يعاني من النقص الحاد في السلوكيات الحميدة وطغيان السلوكيات السيئة، والأسوأ من هذا أن يستغل كل ما في يده من سلطة للتسلط ومن قوة للأستقواء على من يظنهم أضعف منه، فهذا الإنسان المسكين الذي يدعو سلوكه هذا للشفقة لم يستطع أن يتغلب على عيوبه الذاتية ولم يستطع أن يخفيها عن الناس، فأصبح يعيش صراعا قاسيا مع نفسه، فيكون الحل الوحيد لتخلصه من هذه العيوب هي إسقاطها على غيره. لذلك لا يتردد في صنع كبش فداء يوجه سهامه إليه بشكل مستمر، عندها سيظن أنه تمكن من إقناع الناس بأنه لا يعاني من أي مشكلة، وفي نفس الوقت سيقنع نفسه البائسة بأنه ليس الوحيد في هذا العالم يعاني فيه من قصور، كما سيقتنع بوقف الحرب ضد نفسه، مع أنها حرب مشروعة لتصحيح الوضع والتخلص من العيوب الشخصية.
أسأل الله تبارك وتعالى أن لا يجعلنا ممن يقع في هذه الآفة، وأن لا يسلط علينا أحد يعيش وفق هذه العقلية.
البروفيسور د. السير كريم سهر
منقول