هَدِيْلُ الْحَمَامِ ... بُكَاءٌ أَمْ غِنَاء ؟!
لا ريبَ أن المتأمل في الشعر يرى أن الشعراء كانوا يسامرون البدر، ويرعونَ النجوم، ويناجون الأطيافَ، ويندبون الأطلالَ.. وهم ذوو أفئدةٍ رقيقةٍ يُشجيهم نوح الحمائم، ويُبهجهم صُداحُ العنادل، ويُطربهم غِناء البلابل.
وهم ذوو آذانٍ مُصغية، حيث تنصتُ آذانُ قلوبِهم إلى هدير المياه، وهديل الحمام، وترانيم الطبيعة، وألحان الرياض، ونشيجِ المنتحب.. وكثيرًا ما نراهم يشاركون القمريَّ جواه، فيهيّجُ لهم أحزاناً دفينةً، ويالظلم والطغيانُ فيهم الشوقَ بعد طول رُقاد، كما قال أبو تمّام:
غنى فشـاقـكَ طـائـر غِرِّيد
لـمّا تـرنَّم والـغـصـون تَـميدُ
وشعرُ أبي فراس الحمدانيِّ مشهورٌ عندما سمع حمامةً تنوح بقربه على شجرة عالية، فسألها إن كانت تشعر بما يعانيه، وتذوق بعضًا مما يقاسيه:
أقولُ وقــد ناحـت بقربي حمامةٌ
أيا جارتا: هـل بات حالُك حالي؟
معـاذَ الـهوى ما ذقتِ طارقةَ النّوى
ولا خـطـرت مـنك الـهمومُ ببالِ
لقد كنتُ أولى منك بالدمع مُقلـةً
ولكـن دمـعي فـي الحوادث غالٍ
وكذلك حال الشاعر أبي القاسم عندما سمع في رونق الضحى بكاءَ حماماتٍ لهن هدير، فهيجنَه ببكائهن، وزِدْنَ لوعته، وفجّرنَ اشتياقه، وعُدنَ به إلى عهدٍ سلفَ، ودهرٍ مضى، فنراه مخاطبًا عبدةَ:
ألَمْ تَسْمَعِي: أي عَبْدَ في روْنَـق الضُّحَى
بكـاءَ حَـمَامَـاتٍ لُهَنَّ هَدِيرُ؟
بَكَيْنَ فهيَّـجْـن اشـتِيَـاقِي وَلوْعـتي
وقَدْ مَـرَّ مِـنْ عَهْد اللّقَاءِ دُهُور
ويبقى السؤال: هل الحمام عندما يسجع ويُهدهِد ينوح أم يترنّم؟! أم أنه ينوح حيناً ويترنّم أحياناً أخرى ؟ أم أنه لا يترنَّم على الإطلاق لأنه سَمِيُّ الحزن، ولكن الأمرَ في الحقيقة يعود إلى نفسية الشاعر، ومشاعره العاطفيةِ، فإذا كان سعيدًا رآه يترنم، وإذا كان محزوناً رآه ينوح؟!
والأسئلة في هذا الصدد كثيرةٌ.. ولكن المتأمل في أشعار العرب يرى أن (العربَ تجعل صوتَ الحمام مرةً سجعًا، ومرة غناء، وأخرى نوحًا، وتضرب به المثلَ في الإطراب والشجْوِ، وبجميعه جاء الشعر، قال البحتري:
إذا سجـعَ الـحمامُ هنـاك قالوا
لفـرط الشـوق: أيـن ثوى الوليدُ؟
وقال ابن الرومي:
رأيتُ الشـعر حيـن يُقال فيكم
يعـود أرقَّ مـن سجْـعِ الـحـمام
ومن العرب كذلك (من يجعل صوت الحمام بُكاء، ويزعم أنها تبكي على فَرْخٍ لها هلكت في عهد نوح ، ويسمونه الهديلَ)، ولذلك قال الكُميت:
وَمَـا مَـنْ تـهْتُـفينَ به لِنَصْرٍ
بـأقْـرَبَ جـابَـةً لَـك مِنْ هَدِيلِ
ومنهم من يجعله غناءَ، ـ كما ذكرنا ـ وكما قال الآخر:
ألَا قاتلَ الله الـحمـامَاتِ غدْوَةً
عَلَى الغُـصْنِ مـاذا هَيَّجَتْ حينَ غَنَّتِ ؟
وأظهر أبو العلاء الشكّ في ذلك حين قال:
أبَكتْ تِلْكمُ الـحَـمْـامـةُ،
أَمْ غَنَّــتْ عَلَى فَـرْع غُصْـنِها الَميّـاَدِ؟!
وبعض الشعراء جعل من نوْح الحمام مطيةً للموت والهلاك والْحِمام، كما فعل القاضي عبدُالمنعم الواسطيُّ حيث جعل من نوْح الحمام حِمامًا وموتًا، فلله درُّه عندما قال:
ولمّا جزَعنـا الرَّمـلَ، رمـلَ عُنَيْزَةٍ
وناحت بأعلى الدَّوْحتين حَمـامُ
صبوت اشتياقًا، ثمَّ قـلت لصاحبي:
ألا إِنّـما نَـوحُ الحَمام حِمـامُ
وإذا كانت الحمامة تغني أو كانت تنوح، فإنها عند الشاعر أحمد بن محمد بن عبد ربّه تُبدي ما أخفاهُ القلبُ من لواعج الشوق، وحُرَقِ الصبابة، لذلك يقول:
أناحتْ حمـاماتُ اللِّوى أم تغنّتِ؟
فـأبـدت دواعي قلـبِه ما أجنّتِ
فديتُ التي كـانت ولا شيءَ غيرُها
منـى النفسِ أو يقضي لها ما تمنّتِ
في حين نرى أن الشاعر أبا بكر يحيى بن بقيٍّ الطُلَيطُلِيَّ يؤكد أن القمريَّ دائمُ البكاء، حتّى وإن قال بعض الناس إنه يترنم ويغني، ويُشبه شاعرنا نفسَه وتنهُّدَه بالقمريِّ وبكائِه عندما يقول:
فهلاَّ أَقاموا كالبكـاءِ تنهُّدِي
إذا مـا بَكَى القُمْرِيُّ قالوا: تَرنَّما
وبكل الأحوال، وسواءٌ أكانت الحمامة تغني أم كانت تبكي، فإن صوتها صوتٌ أعجمي، ويفسره كلُّ شاعرٍ كما يريد، فهناك (أبياتٌ تُروى لابن الدُّمَينَة نقتطف منها قوله:
ألا قـاتَـلَ الله الحَمـامَة غُدْوةً
على الغُصْنِ ماذا هَيَّجَتْ حينَ غَنَّتِ؟
تَغَنَّتْ بصَوْتٍ أَعْجَمِيٍّ، وهَيَّجَتْ
جَوايَ الذي كانتْ ضُلُوعِي أَجَنَّتِ
وجميعنا نتفق على أن هديل الحمام وسجعَه ـ بالنسبة للمُحب والمشوق والغريب ونائي الديار يُرقّق المشاعر، ويُنبّه الشوق بعد أن كان سادرًا في غيابات الكرى، ويُسيل العبراتِ.
وإنّني أرى ـ ولا أدري أيها القارئُ الكريم أتوافقني الرأي أم لا ؟ ـ أن الحزن والنواح هو الأساس عند الحمام، فالحمام بهديله وسجعه سميرُ الحزانى، ونَجِيُّ الثّكالى والأيامى، وهديلُهُ بلسمٌ لجراحاتِ المتألّمين، وسجعُهُ مؤنسٌ للغرباء المبعَدين.. وعندما يختلف اللفظ أحيانًا عند
الشعراء بين الغناء والنواح فإن الشعراءَ ـ طبعًا ـ لا يقصدون الفرحَ والسرور إذا ذكروا كلمة الغناءِ مقرونةً مع الحمام، بل يقصدون بها الحزن والبكاء، والعويل وطول النحيب.