الخلايا الجذعية: هندسة البويضات.
في إبداع تقني رائع، استطاع باحثون يابانيون تخليق بويضات وحيوانات منوية في المختبر. وينبغي الآن أن يقرِّر العلماءُ كيفية استخدام تلك الخلايا بطريقة آمنة وأخلاقيّة.
ديفيد سيرانوسكى
منذ أكتوبر 2012، استقبل خبير البيولوجيا الجزيئية كاتسوهيكو هاياشي أكثر من 10 رسائل إلكترونية من أزواج، معظمهم في منتصف العمر، في أمسِّ الحاجة إلى شيء واحد: طفل. وعرضت امرأة من إنجلترا في سِن اليأس المجيء إلى مختبره بجامعة كيوتو باليابان، بأمل أن يساعدها في أن تحمل بطفل. وكتبت تقول: «تلك هي رغبتي الوحيدة».
بدأت الطلبات تَفِد إلى هاياشي، بعد أن نشر نتائج تجربة، يُفترض أن لها أهمية خاصة لعلماء البيولوجيا التطوريّة (التكوينيّة)1. فمن خلايا جلد الفئران بالمختبر، قام هاياشي بتخليق خلايا جرثومية أولية، يمكنها أن تتطور إلى حيوانات منوية وبويضات. ولإثبات أن هذه النُسَخ من الخلايا المخلَّقة مخبريًّا تماثل فعلًا الخلايا الجرثومية الأوّليّة الطبيعية، استخدمها الباحث في تخليق بويضات، ثم استخدم تلك البويضات لتخليق فئران حية. وبينما اعتبر هاياشي ولادة الفئران «تأثيرًا جانبيًّا» للبحث الأصلى، تجاوزت تجربة منضدة المختبر ذلك بكثير، لأنها عزَّزت إمكانية تخليق بويضات قابلة للإخصاب من الخلايا الجلدية للنساء العقيمات. كما طرح البحث إمكانية استخدام خلايا جلد الرجل لتخليق بويضات، أو تخليق حيوانات منوية من خلايا النساء. (في الواقع، بعد نشر هذا البحث، أرسل محرر مجلة معنية بشؤون المِثليِّين والمِثليّات إلى هاياشي طلبًا لمعلومات أكثر).
ورغم طبيعة البحث الابتكارية، فاجأ الاهتمام العام به هاياشي وأستاذه ميتينوري سايتو. وقضى الباحثان أكثر من عقد في تجميع أدق تفاصيل عملية إنتاج أمشاج الثدييات، وإعادة تخليق العملية مخبريًّا؛ لأجل العِلْم وليس الطب. تتيح طريقتهما الآن للباحثين تخليق خلايا جرثومية أوّليّة غير محدودة، كان يصعب الحصول عليها سابقًا. وهذا الإمداد المنتظم من الخلايا النادرة ساعد في دفع دراسة تكاثر الثدييات، لكن في أثناء مسارهما نحو الانتقال الصعب علميًّا من الفئران إلى القرود، ثم إلى البشر، يضعان مسار مستقبل أبحاث علاج العقم، وربما تجارب أكثر جرأة في مجال التكاثر. وقد بدأ العلماء والعامة للتَّوِّ في التعامل مع المسائل الاخلاقية المتصلة بالموضوع.
يقول أماندر كلارك، خبير الخصوبة بجامعة كاليفورنيا، بلوس أنجيليس: «لا حاجة إلى القول إنهما حقّقا تحولًا للمجال في عالَم الفئران». و«الآن، لتجنُّب عرقلة تلك التقنية قبل أَخْذها فرصة إظهار فوائدها، ينبغي لنا التحاور حول أخلاقيات تصنيع أمشاج بهذه الطريقة».
عَوْد على بدء
في الفئران، تظهر الخلايا الجرثومية بعد الأسبوع الأول من تكون الجنين، كمجموعة من حوالي 40 خلية جرثومية أوّلية2. تكوِّن هذه المجموعة الصغيرة في النهاية عشرات آلاف البويضات لدى الأنثى الوليدة، أو ملايين الحيوانات المنوية التي ينتجها الذكر يوميًّا، وتمرر التراث الجيني الكامل للفأر. لقد أراد سايتو فهم الإشارات [الجزيئية] التي توجه نمو وتكوين هذه الخلايا.
خلال العقد الماضي، تمكَّن سايتو ـ بمشقة ـ من اكتشاف عدة جينات، منها Stella, Blimp1, Prdm14، التي لدى التعبير عنها بمزيج معين وتوقيت معين، تؤدي دورًا حاسمًا في تكوين وتطور الخلايا الجرثومية الأولية3-5. وباستخدام هذه الجينات كعلامات، استطاع سايتو انتقاء الخلايا الجرثومية الأولية من بين خلايا أخرى، ودراسة ما يحدث لها. في 2009، من خلال تجارب أجريت بمركز رايكن RIKEN للبيولوجيا التكوينية في كوبيه باليابان، وجد سايتو أنه تحت ظروف استزراع سليمة للخلايا، فإن إضافة مكون واحد فقط، بروتين تَخَلُّق العظام–4 (Bmp4)، في توقيت محدد يكفي لتحويل الخلايا الجنينية إلى خلايا جرثومية أولية2. ولاختبار صحة هذه النتائج، أضاف سايتو تركيزات عالية من بروتين تَخَلُّق العظام–4 للخلايا الجنينية، وكانت النتيجة أنها تحولت جميعًا إلى خلايا جرثومية أولية2. وقد توقع سايتو وعلماء آخرون أن تكون العملية أكثر تعقيدًا.
كانت طريقة سايتو ـ وهي محاكاة شديدة الدقة للعملية الطبيعية ـ على نقيض ما كان يفعله آخرون، حسب قول جاكوب حنا، خبير الخلايا الجذعية بمعهد وايزمن للعلوم في رحوفوت بإسرائيل. ويحاول علماء كثيرون تخليق أنواع خلايا معينة مخبريًّا، وذلك بإمطار الخلايا الجذعية بجزيئات إشارية، ثم انتقاء الخلايا المرغوبة من خليط الخلايا الناضجة الناتج، لكنْ لم تكن واضحةً أبدًا العملية التى تتكون بها هذه الخلايا ولا مدى تطابقها مع النُّسَخ الطبيعية. لذلك.. فإن جهود سايتو للوقوف على الضروري لتخليق الخلايا الجرثومية والتخلص من الإشارات الجزيئية الزائدة وتحديد التوقيت الدقيق لعمل مختلف الجزيئات أثارت إعجاب زملائه الباحثين. يقول حنا: «هناك رسالة خفية رائعة في تلك النتائج، هي أن تحقيق تمايز الخلايا [مخبريًّا] ليس سهلا أبدًا». أمّا هاري مور، خبير الخلايا الجذعية بجامعة شيفيلد بالمملكة المتحدة، فيَعتبِر الخلاصة الحذرة لتطوير الخلية الجرثومية «انتصارًا».
حتى 2009، كانت نقطة بداية تجارب سايتو خلايا مأخوذة من الأديم الخارجي الظاهري لفئران حية (مجموعة خلايا جنينية فنجانية الشكل تبطن طرف الجنين وتتشكل بنهاية الأسبوع الأول من تكوين الجنين، قبل ظهور الخلايا الجرثومية الأولية مباشرة). وللتحكم الحقيقي في تلك العملية، أراد سايتو البدء بخلايا مزروعة ومتاحة بسهولة.
كان هذا هو مشروع هاياشي، الذي عاد من جامعة كمبريدج بالمملكة المتحدة إلى اليابان في 2009 بعد أن أنهى ـ مثل سايتو قبله ـ مهمة علمية مدتها 4 سنوات بمختبر أحد رواد المجال، هو عظيم سوراني. يثمِّن سوراني هذين الباحثين، ويرى أنهما «يكملان بعضهما من حيث المزاج الشخصي، وأيضًا في أسلوب ومقاربة حل المشكلات». يقول سورانى إنّ سايتو «منهجي» الشخصية و«لديه القدرة على التصميم والتركيز لتحقيق أهدافه»، بينما هاياشي «يعتمد على الحدس بشكل أكبر، وينظر إلى الموضوع نظرة أوسع، ويبدي نهجًا أكثر استرخاء». ويتابع بقوله: «إنهما معًا يكوِّنان فريقًا قويًّا جدًّا».
لحق هاياشي بسايتو بجامعة كيوتو، واكتشف سريعًا أنها مختلفة تمامًا عن كمبريدج. ولم يكن هناك وقت لنقاشات نظرية كما اعتاد سابقًا؛ بل دخل مباشرة في التجارب. يقول هاياشي: «في اليابان نتجه نحو العمل مباشرة. أحيانًا يكون ذلك غير ناجع، لكنْ في أحيان أخرى ينجح نجاحًا هائلًا».
حاول هاياشي استخدام خلايا الأديم الخارجى ـ نقطة بداية تجارب سايتو ـ وبدلًا من استخدام خلايا مستخلصة من الأجنة كما فعل سايتو، حاول هاياشي أن يستزرعها كخط خلايا مستقر يمكنه إنتاج خلايا جرثومية أولية. لم تنجح الطريقة. ووقتئذ، استخدم هاياشي نتائج أبحاث أخرى تُظْهِر أن جزيئًا أساسيًّا منظمًا (أكتيفين A) وعامل نمو (عامل نمو خلايا الألياف الأساسي) يستطيعان تحويل خلايا جذعية جنينية مبكرة مستزرعة إلى خلايا أقرب لخلايا الأديم الخارجي. أطلق ذلك شرارة استخدام هذين العاملين لحث الخلايا الجذعية الجنينية على التمايز إلى خلايا أديمية، ثم إضافة تركيبة سايتو السابقة؛ لدفع تلك الخلايا لتصبح خلايا جرثومية أوّلية. ونجحت الطريقة6.
ولإثبات أن هذه الخلايا الجرثومية الأولية الاصطناعية نسخ طبق الأصل من نظيراتها الطبيعية، كان ضروريًّا إظهار أنها تتحول إلى حيوانات منوية وبويضات سليمة. العملية التى يحدث بها هذا معقدة وغير مفهومة، ولذا.. فضَّل الفريق ترك المهمة للطبيعة؛ فقام هاياشي بزرع تلك الخلايا داخل خصي فئران عاجزة عن إنتاج حيوانات منوية طبيعيًّا، وانتظر ليرى إنْ كانت الخلايا ستنمو، أم لا6. رجَّح سايتو أن ينجح ذلك، لكنه كان قلقًا. يقول سايتو: «كانت فرصة النجاح حوالي 50/50». ويضيف: «كنا نشعر بالإثارة والقلق في آن واحد»، لكن في الفأر الثالث أو الرابع، وجدوا خصيتين لهما أنيبيبات منوية غليظة داكنة مملوءة بالحيوانات المنوية. يقول هاياشي: «لقد حدث هذا بشكل صحيح تمامًا. وكنت أعلم أنها ستنتج فئرانًا وليدة». حقن الفريق الحيوانات المنوية داخل بويضات، ثم أدخلوا الأجنة الناتجة إلى إناث الفئران. كانت النتيجة ولادة فئران مُنْجِبَة ذكورًا وإناثًا6 (انظر «صناعة الأجنة»).
هبة الخلية الجرثومية
استطاع باحثون آخرون تكرار العملية؛ لتوليد خلايا جرثومية أوّلية مخبريًّا (لم يكن بين الذين اتصلت بهم «نيتشر» مَنْ استخدمها لإنتاج حيوانات حية). الخلايا الجرثومية الأوليّة المخلَّقة اصطناعيًّا لها استخدام خاص لعلماء الوراثة اللاجينية، أي التبدلات الكيميائية الحيوية للحمض النووي التي تحدد أي جينات سيُعَبَّر عنها. تلك التبدلات ـ هي غالبًا إضافة مجموعات ميثيل لقواعد الحمض النووي فرادى ـ تحمل في بعض الحالات نوعًا من السجل التاريخى لما مَرَّ به الكائن (التعرض لمواد كيميائية داخل الرحم، مثلًا). وبطريقة مماثلة لعملها بخلايا أخرى، تدفع علامات الوراثة اللاجينية الخلايا الجرثومية الأوليّة إلى مآلها (التمايز) أثناء التطور الجنيني، لكن هذه الخلايا فريدة، لأنها حين تتطور إلى بويضات وحيوانات منوية، يتم محو علامات الوراثة اللاجينية. وهذا يتيح للخلايا تخليق بويضة مخصَّبة جديدة قادرة على تكوين جميع أنواع الخلايا.
يُتوقع أن تسهم أخطاء في أدق التغيرات الوراثية اللاجينية في ظهور العقم واضطرابات أخرى، كسرطان الخصيتين. لقد استخدمَت بالفعل مجموعتا سورانى وحنا، خلايا جرثومية أولية مخلقة اصطناعيًّا لبحث دور كل إنزيم وحده في التنظيم الوراثي اللاجيني، وهو ما قد يُظهِر يومًا كيف تنخرط الشبكات الوراثية اللاجينية في الأمراض.
في الواقع، توفر الخلايا الجرثومية الأوّلية المخلَّقة مخبريًّا ملايين الخلايا للعلماء لدراستها، بدلًا من الأربعين خلية التي تُستخرَج عادة بتشريح أجنة مبكرة، حسب قول حنا، الذي يضيف: «هذا أمر مهم، لأننا نملك تلك الخلايا النادرة ـ خلايا جرثومية أولية ـ تمر بتغيرات وراثية لاجينية كبيرة بكامل الجينوم، نفهمها بالكاد». ويوافقه كلارك بقوله: «النموذج المخلَّق معمليًّا أتاح آفاقًا غير مسبوقة للعلماء».