تتوارى يوماً بعد يوم، أبواب عتيقة كانت إلى حين تطالع عيوننا هنا وهناك.
في مدننا وقرانا، نفذها في زمن غابر، حرفيون ماهرون، من مواد وخامات كانت في متناول اليد، لتؤدي دورها في فصل دواخل البيوت والقصور والمعابد، عما يجري داخلها من حركة متلونة للحياة، وأسرار لها أكثر من شكل، عن الناس في الخارج. وككل حاجات الإنسان، بدأ تصميم الباب بسيطاً، ثم تطور لتطوله التزويقات والزخارف وملحقات أخرى، حوّلته إلى عمل فني يختزل ذاكرة مرحلة ويؤرخ لها ولمعتقدات ومفاهيم وعادات ناسها. إضافة إلى مهمته الرئيسة في عزل الداخل عن الخارج،وتأمين الطمأنينة والأمان والحرية لساكنيه. يرى (حميد قاسم) أن الباب المؤلف من بضعة سنتيمترات، يفصل بين عالمين هما: الداخل والخارج، الباطن والظاهر، السر والجهل، من المدون والمروى، مذ كان الباب صخرة ثقيلة تسد فتحة كهف في غابة أو جبل، حتى أصبح رقيقاً صلداً.في الوقت نفسه، يُغلق ويُفتح بـ (الريموت كونترول) أو بالاستشعار الحراري، أو بالبصمة الصوتيّة، أو بكلمة السر، أو الكلمة السحريّة، وهي النسخة المتحققة أخيرا، لأسطورة (افتح يا سمسم).
وهكذا ارتبط الباب منذ البدء بالسحر والأساطير والمغامرات والخيال، ذلك الارتباط الذي لا تنفصل عراه الوثيقة، مهما ازدادت واقعيّة الحياة، وتعددت مهام ووظائف الباب التي كانت في البداية، مقتصرة على حفظ الإنسان عن الأخطار الخارجيّة، كالحيوانات المفترسة، والبرد، والمطر، والناس... الخ. أنواع اهتم المعمار العربي القديم بالباب، على اعتبار أنه يُعطي الانطباع الأول تجاه البيت، فالباب هو أول ما يواجه الساكن والضيف عند ولوجه إلى المنشأة المعماريّة، وهو أخر ما يراه عند مغادرتها.
قد يكون صغيراً أو كبيراً، وفق مهمته ومكانه، فباب المنزل غير باب البناية، وباب الشقة الطابقيّة غير باب المنزل الريفي الذي قد يدخله الإنسان والحيوان ووسائل النقل والحراثة، وباب الزمن الجميل غير باب هذه الأيام المحكومة بالانعزال، والخوف، والريبة، والأنانيّة. الأبواب أنواع وأشكال، وهي إما من الخشب أو الحديد أو الألمنيوم، وقد تُطعّم من مواد وخامات عديدة، وله ملحقات (اكسسوارات) منها (المطرقة، والمزاليج، والأقفال والمفاتيح، والمفصلات، والمسامير الكبيرة).
وقد دخلت التكنولوجيا مؤخراً إلى الأبواب، فباتت الكترونيّة، تًفتح وتُغلق بالأزرار، أو بـ (الريموت كونترول). أما أبواب الزمن الجميل، فكانت بسيطة الفتح والإقفال، لكنها جميلة التصميم، متقنة التنفيذ، بحيث تحوّل بعضها إلى تحف فنيّة، تتنافس اليوم على اقتناءها والفوز بها،العديد من المتاحف.
من هذه الأنواع التي سادت في دمشق بشكل خاص، وغالبية المدن العربيّة بشكل عام، نوع يدعى (السبرس) تتألف ضلفته من قائمتين ورأسين فيهما حفر بالقرب من الوجه، لتركيب ألواح (السبرس) المفرزه.
وهناك باب (الحشو) المكوّن من قائمتين رأسيين وعدد من الرؤوس العرضيّة، يتم داخلها تجميع حشوات من خشب أقل سماكة من سماكة عظم الباب، ويعمل بها كشف، وتُزين بأعمال الحفر البارز، بأشكال هندسيّة وزخرفيّة، لعل أشهرها ما سميّ (الأطباق النجميّة) حيث يتم تطعيم هذه الحشوات بالصدف والعاج والنحاس.
ومنها ما يسمى (المفروكة) وهي عبارة عن سؤاسات مائلة بزاويّة 45 درجة، وقد يستخدم في تزيينها الأشرطة النحاسيّة المسبوكة والمفرغة بزخارف هندسيّة جميلة، كما يتم وضع صور نحاسيّة تُساعيّة، أو اثنا عشريّة، في وسط مصراعي الباب. كما عرف المسلمون تكفيت الأبواب بالذهب والفضة أو بالبرونز المسبوك المخرم والمحلى بالنقوش الزخرفيّة.
شاع في بيوت دمشق في القرن الثامن عشر، استخدام باب وبداخله باباً صغيراً أو قصيراً يدعى (باب الخوخة) حيث يتطلب الأمر لدخوله حني الظهر، كما ينبغي تخطي عارضة الباب السفليّة التي ترتفع بمقدار 15 ـ 20 سم عن الأرض، وهي تخفي وراء هذه الحركة، الدفع إلى أظهار الاحترام للبيت وأهله من قبل الداخل إليه.
وفي بعض الأحيان، كان يُلجأ إلى تصفيح مصاريع هذه الأبواب بالصفيح، وغالباً ما كانت تُصفح الأبواب الكبيرة كأبواب الخانات، أو أبواب المدينة، أو أبواب الحارات، لزيادة متانتها، وتجميلها في الوقت نفسه.
كما استخدمت في بعض هذه الأبواب المسامير الحديديّة الكبيرة التي تقوم بتجميع عوارض الباب، ومنحه جماليّة وظيفيّة رائعة، تتوزع هذه المسامير بشكل ظاهر ومدروس، من خلال بعض الزخارف والتكوينات المختزلة، لتعطي تأثيراً جمالياً ساحراً للباب.
أما الأبواب داخل البيت، فهي ذات مصراع واحد، أو مصراعين، وتنفذ بطريقة الحشوات، أو بطريقة الخيط العربي (الأرابيسك). ومنها ما نُقشت عليه تشكيلات مختلفة من الزخارف الهندسيّة المعقدة، بوساطة الخطوط المتقاطعة والمسامير الحديدّة. كما قد يستعمل فيها تنزيل الفضة والصدف.
مطرقة الباب
من المظاهر الرائعة التي ارتبطت بأبواب الزمن الجميل (المطرقة) أو (المقرعة) التي تُعتبر من التراث الفني العربي الذي يعكس رقي الذوق، وتطور الفن، وتقدم الحضارة.
والمطرقة عبارة عن أداة صغيرة من المعدن، تُشبك بالباب من الخارج، بحيث يمكن تحريكها والقرع على قاعدة معدنيّة لإحداث صوت يسمعه من بداخل البيت كي يفتح للطارق.
وتلعب المطرقة دوراً هاماً في آداب دخول البيت، فرضه العامل الديني، حيث تحقق المطرقة الاستئذان بالدخول، وتلغي الحاجة إلى النداء بصوت عالٍ. كما أنها أول ما يلمسه الضيف، وما يراه من المنزل، ما يجعلها تعطي الانطباع الأول عن البيت، لعل هذا هو السبب الرئيس الذي دفع صناع المعادن العرب والمسلمين، للاهتمام بها. فقام صناعها، بالتفنن بتشكيلها وتصميمها وزخرفتها وتجميلها، سواء بأشكال بارزة أو غائرة، أو مفرغة، كما اهتموا بمتانتها، لتؤدي مهمتها بشكل جيد ودائم.
أنواع المطارق
كما تنوعت تصاميم الأبواب وزخارفها، كذلك الأمر بالنسبة لمطرقة الباب، حيث شاع اتخاذ مطارق الأبواب المشكلة على هيئة رسوم مستمدة من اللفائف النباتيّة العربيّة الموروقة التي عُرفت عند علماء الفنون والآثار باسم (أرابيسك).
من جانب آخر، كان بعض أصحاب البيوت من أمراء المماليك، يحرصون على أن يثبتوا على مطارق أبوابهم أشعرتهم وأسمائهم.
شاع استخدام مطارق الأبواب في غالبية الدول العربيّة، ومنها انتقلت إلى بعض الدول الأوروبيّة، فقد اكتشفت في كنيسة (ورتبرك) بألمانيا، مطرقة عليها كتابة دائريّة تشتمل على أدعية وألقاب مكتوبة بخط عربي زخرفي جميل.
أخذت مطارق الأبواب، هيئات وأشكال متعددة، لكن أبرزها وأهمها وأكثرها شيوعاً، تلك التي أخذت شكل قبضة يد، مؤلفة من خمسة أصابع، تمثلاً وتشبهاً بيد الطارق. وربما انيطت بها مهمة دفع الحسد، ذلك أن بعض العامة قد يطبعون على أبوابهم، أو واجهات منازلهم، كفاً بأصابع خمسة، كتميمة ضد الحسد وعين السوء، الأمر الذي يجعلنا نؤكد، أن بعض هذه المطارق، يتضمن معاني رمزيّة، لا سيما منها المُشكّلة على هيئة أهله، لأن الهلال يرمز إلى الإسلام، من جهة، وإلى الخير عند الساسانيين في إيران، من جهة ثانية.
على هذا الأساس، فقد شكّلت مطرقة الباب ميداناً رحباً، للفنانين والصناع والحرفيين، للابتكار والإبداع، وقد ربطوا في تصميمها وزخرفتها ورموزها، بين تعاليم إسلاميّة عديدة. كما أوت إليها، بعض الأوهام والخرافات، لكن كل هذا، انضوى ضمن فن رفيع ورائع الجمال.
المزلاج
من عناصر الباب الرئيسة أيضاً (المزلاج) الذي يكون من الحديد المبسط، ويكفي ثقله ليستقر قي فتحة حديدية أخرى في صندوق الباب، أو في المصراع الثاني الثابت، ولا يُفتح الباب هذا إلا من الداخل، أو بخيط يُربط بالمزلاج ويخرج من ثقب فيه، يكفي أن يُسحب من الخارج ليفتح الباب ويسمى (سقاطة) أو (ساقوطة) أو (ضبة).
وهناك (الرزة) وهي عبارة عن حديدة يدخل فيها المفتاح، وهو ما يُفتح به الباب، وقد تفنن الحرفيون في صناعة المفاتيح وزخرفتها وتجميلها، حتى أن (ابن الزبير) عندما أعاد بناء الكعبة الشريفة، صاغ لها المفاتيح من الذهب الخالص.
تطور متصاعد
تدرجت صناعة الأبواب من البساطة المتناهية، إلى التعقيد والإتقان الذي وصل إلى حد الإعجاز الفني والجمالي، حوّل بعضها إلى ما يشبه التحفة الفنيّة، بعد أن دخل على خط صناعته، الفنانون التشكيليون والمزخرفون والحرفيون المهرون، وتنوعت مواده وخاماته وأشكاله وتصاميمه، وفي نفس الوقت، مهامه ووظائفه.