خرجت من بيتها فى ليلة تحمل نفسها و لا تدرى إلى أين؟! كان هناك دافع وراء
رغبتها فى الخروج دون أن تدرى لما، مجرد إحساس إنتابها، ظلت تمشى على شاطئ النيل تتأمل مياهه، تحس بشىء فيه يشبهها، ربما عمقه ربما غموضه، هى حقيقة لا تدرى فأحيانا نعجز عن اكتشاف أنفسنا أو نحتار لأمرنا. جلست فى مقهى على شاطئ النيل تحتسى فنجانا من القهوة، و هى تقرأ كتابها المفضل "أوراق من الحياة". كانت تقرأ وهى تجول بعينيها فى المكان و كأنها تترقب شيئا ما، رفعت عينيها من صفحة الكتاب إلى الدنيا من حولها لتجد ما قرأته مجسدا أمامها، فما حياتنا إلا صفحات فى كتاب. جاءت فتاة رقيقة إليها تحمل باقة من الزهور، فتاة رغم فقرها إلا أنها جميلة، و لا تعرف سر جمالها و كيف خرج من حالة البؤس التى تبدو عليها، هى فتاة خمرية البشرة، عيناها سودوان عميقتان، بهما بريق كأنهما تدمعان، و شعر أشقر مجعد رغم نعومته، لا تملك أمامها سوى أن تقول : تبارك الله. وقفت الفتاة أمام هدى و مدت إليها يدها بوردة لتشتريها منها، فطلبت هدى منها الجلوس إليها، و سألتها، ماذا تحبين أن تشربى؟ أجابت الفتاة : قهوة. و هنا استغربت هدى كثيرا : كيف لفتاة فى مثل سنك أن تطلب القهوة، أمازلتِ صغيرة عليها؟! فأجابتها الفتاة : أمازلتُ صغيرة على أشياء كثيرة، فما عجبك من أمر القهوة؟ إنها أبسط الأشياء المعقدة التى تمر فى حياتى. ففرغت هدى عن فيه لرد الصغيرة عليها، و تفوهت بكلمات"ما أعجبك من فتاة"! و لما تعجبين من أمري، ألستُ إنسانة مثلك؟ و لكنى أستشعر أنك لستِ مجرد فتاة عادية. فابتسمت الفتاة لهذه الجملة ابتسامة فيها شىء من الكبرياء و قالت : أعرف ذلك. و جاءت القهوة الساخنة و امتزجت ببرودة الهواء و الفتاة تتناولها فى متعة المشتاق : لذيذة. و هدى تضحك لها فى إعجاب و تراها و كأنها كبرت مزيدا من الأعوام ، تحدث نفسها : لم أكن أعلم أنَّ للقهوة كل هذا التأثير. سألت هدى الفتاة : لماذا اخترتى الورد لكى تبيعيه رغم أنَّه لا يأتى إليكِ إلا بالقليل؟ قالت الفتاة لـ ليلى : لأنَّى قرأتُ فى كتاب هذه المقولة "مهما يذبل الورد تبقى آثاره". صمتت هدى قليلا حتى استجمعت شتات أمرها و قالت للفتاة : أو تقرأين الكتب؟! أقرأ و أكتب بعض ما أقرأه فى وريقات. مازالت هدى حائرة من أمر فتاتها قائلة لها : و لِمَ تفعلين ذلك؟! لتظل دائما معى فلا أنساها أبدا. سألتها هدى فى شىء من الجدية : لماذا لا تريدين أن تنسيها؟ لأنها ستصنع منى الإنسانة التى أريدها فى الغد. و هل مثلك يفكر فى الغد؟ كنتُ أعتقد أنَّ ما يهمك هو يومك فقط. هذا اعتقادكم وحدكم و لا شأن لنا به، لقد ظلمتمونا عندما فكرتم بنا على هذا النحو، أليس من حقنا أن نفكر فى غد آمن لنا، من له أن يحرمنا هذا الحق؟ غير أنَّكم أغفلتم أمرنا و نسيتمونا و حرمتم علينا الحياة رغم أننا أحياء. و ما أدرانا أنَّ لديكم حلما جميلا هكذا، ما أخبرتمونا من قبل. و كيف لنا أن نخبركم بأحلامنا و لم تسألونا. معكِ حق، نحن مقصرون معكم أنتم أيها البؤساء الحالمون. و دارت أشياء و أشياء فى نفس هدى عن هؤلاء المعدومين فى الحياة، أين هم فى دنيانا، لما أغفلنا وجودهم و لم نرهم رغم أنهم يعيشون بيننا؟، و يحملون أوجاعا لابد من النظر إليها و الإمعان فيها. استدارت هدى إلى الفتاة فى بطء لتخبرها بأنها آسفة لحالها، و تشعر بالذنب حيالها، فهى ترى فيها نبتة تحتاج إلى رعاية لكى تثمر و تؤتى أُكلها. و فى شيء من اللوم وجهت الفتاة قولها إلى هدى : اعلمى أنَّى لست الوحيدة التى تعيش فى بؤس، فهناك الكثيرون. سبحان الله! رغم بؤسك إلا أنك تفكرين فى غيرك. هذا لأنَّى وجدتُ فى بؤس الآخرين ما يهون علىَّ حالي، أنتِ لا تعرفين شيئا عن آلامنا. ربما، لم تخبريني عن اسمك. نعم. انتهت.