أنا هو
( إيليا أبو ماضي )
كانت قبيل العصر مركبة
تجري بمن فيها من السّفر
ما بين منخفض و مرتفع
عال ، و بين السّهل و الوعر
و تخطّ بالعجلات سائرة
في الأرض إسطارا و لا تدري
كتبت بلا حبر و عزّ على
الأقلام حرف دون ما حبر
سيّارة في الأرض ما قتئت
كالطّير من وكر إلى وكر
تأبى و تأنف أن يلمّ بها
تعب ، و أن تشكو سوى الزّجر
حملت من الركاب كلّ فتى
حسن الرّواء و كلّ ذي قدر
يتحدّثون فذاك عن أمل
آن ، و ذا عن سالف العمر
يتحدّثون و تلك سائرة
بالقوم لا تلوي على أمر
فكأنّما ضربت لها أجلا
أن تلتقي و الشمس في خدر
حتى إذا صارت بداحية
ممدودة أطرافها صفر
سقطت من العجلات واحدة
فتحطّمت إربا على الصّخر
فتشاءم الركّاب و اضطربوا
مما ألمّ بهم من الضّر
و تفرّقوا بعد انتظامهم
بددا و كم نظم إلى نثر
و الشّمس قد سالت أشعّتها
تكسو أديم الأرض بالتّبر
و الأفق محمرّ كأنّ به
حنقا على الأيّام و الدّهر
قد كان بين الجمع ناهدة
الثديين ذات ملاحة تغري
تبكي بكاء القانطين و ما
أسخى دموع الغادة البكر
و قفت و شمس الأفق غاربة
تذري على كالورد ، كالقطر
شمسان لولا أنّ بينهما
صلة لما بكتا من الهجر
و تدير عينيها على جزع
كالظّبي ملتفتا من الذّعر
و إذا فتى كالفجر طلعته
بل ربما أربى على الفجر
وافى إليها قائلا عجبا
ممّ البكاء شقيقة البدر ؟
قالت أخاف اللّيل يدهمني
ما أوحش اظلماء في القفر !
و أشدّ ما أخشاه سفك دمي
بيد الأثيم اللّصّ ذي الغدر
" هنري " اللّعين و ما الفتى هنري
إلاّ لبن أمّ الموت لو تدري
رصد السبيل فما تمرّ به
قدم و لا النسمات إذ تسري
وا شقوتي إنّ الطريق إلى
سكني على مستحسن النكر
إنّي لأعلم إنّما قدمي
تسعى حثيثا بي " القبر
قال الفتى هيهات خوفك لن
يجديك شيئا ربّة الطهر
فتشجهي و عليّ فاتّكلي
فأنا الذي يحميك من هنري
قالت أخاف من الخؤون على
هذا الشباب الناعم النّضر
فأجابها لا تجزعي و ثقي
أنّي على ثقة من النّصر
عادت كأن لم يعرها خلل
تخد القفار سفينة البرّ
و اللّيل معتكر يجيش كما
جاشت هموم النّفس في الصدر
فكأنّه الآمال واسعة
و البحر في مدّ و في جزر
و كأنّ أنجمه و قد سقطت
دمع الدّلال و ناصع الدّر
و البدر أسفر رغم شامخة
قد حاولت تطويه كالسّر
ألقى أشعّته فكان لها
لون اللّجين و لؤلؤ الثّغر
فكأنّه الحسناء طالعة
من خدرها أو دمية القصر
و كأنّما جنح الظّلام جنى
ذنبا فجاء البدر كالغدر
و ضحت مسالك للمطيّة قد
كانت شبيه غوامض البحر
فغدت تحاكي السّهم منطلقا
في جريها و الطيف إذ يسري
و القوم في لهو و في طرب
يتناشدون أطايب الشّعر
حتى إذا صارت بمنعرج
و قفت كمنتبه من السّكر
فترجّلت " ليزا " و صاحبها
و مشت و أعقبها على الأثر
و استأنفت تلك المطيّة ما
قد كان من كرّ و من فر
مشت المليحة و هي مطرقة
ما ثمّ من تيه و لا كبر
أنّى تتيه و قد أناخ بها
همّ و بعض الهمّ كالوقر
لم تحتسي خمرا و تحسبها
ممّا بها نشوى من الخمر
في غابة تحكي ذوائبها
في لونها و اللّف و النّشر
ضاقت ذوائبها فما انفجرت
إلاّ لسير الذّئب و النمر
كاللّيلة الليلاء ساجية
و لربّ ليل ساطع غرّ
قد حاول القمر المنير بها
ما حاول الإيمان في الكفر
تحنو على ظبي و قسورة
أرأيتم سرين في صدر ؟
صقر وورقاء ، و من عجب
أن تحتمي الورقاء بالصّقر
هذا و أعجب أنّها سلمت
منه على ما فيه من غدر
ظلّت تسير و ظلّ يتبعها
ما نمّ من إثم و لا وزر
طال الطريق و طال سيرها
لكنّ عمر اللّيل في قصر
حتّى إذا سفر الصّباح و قد
رفع الظّلام و كان كالسّتر
و الغاب أوشك أن يبوح بها
و به ، بلا حذر ، إلى النّهر
نظرت إليه بمقلة طفحت
سحرا ووجه فاض بالبشر
قالت له لم يبق من خطر
جمّ نحاذره و لا نذر
أنظر فإنّ الصّبح أوشك أن
يمحو ضياء الأنجم الزّهر
و أراه دبّ إلى الظّلام فهل
هذا دبيب الشّيب في الشّعر
و أسمع ، فأصوات الطيور علت
بين النّقا و الضال و السّدر ؟
قال الفتى أو كنت في خطر ؟
قالت له عجبا ألم تدر ؟
فأجابها ما كان في خطر
من كان صاحبه الفتى هنري
فتقهقرت فزعا فقال لها
لا تهلعي واصغي إلى حرّ
ما كنت بالشّرير قطّ و لا
الرّجل الذي يرتاح للشّرّ
لكنّني دهر يجوز على
دهر يجوز على بني الدّهر
بل إنّني خطر على فئة
منها على خطر ذوي الضّر
قتلوا أبي ظلما فقتلهم
عدل و حسبي العدل أن يجري
لا سلم ما بيني و بينهم
لا سلم بين الهرّ و الفأر
سيرون في الموت منتقما
لا شافع في الأخذ بالثّأر
تالله ما أنساك يا أبتي
أبدا و لا أغضي على وتر
قالت لقد هيّجت لي شجنا
فإليك ما قد كان أمري
الظلم والطغيان المليك إلى أبي فمضى
و أخي معا توّا إلى القصر
فإذا أبي في القبر مرتهن
و إذا أخي في ربقة الأسر
يا ساعديّ بترتما ويد
الدهر الخؤون أحق بالبتر
نابي و ظفري بتّ بعدكما
وحدي بلا ناب و لا ظفر
و يلاه من جور الزّمان بنا
و الويل منه لكلّ مغترّ
و كأنّنا و الموت يرتع في
أرواحنا مرعى و مستمري
لما انتهت و إذا به دهش
حيران كالمأخوذ بالسّحر
شاء الكلام فناله خرس
كلّ البلاغة تحت ذا الحصر
و كذلك الغيداء أذهلها
ميل إلى هذا الفتى الغرّ
قالت أخي و الله
و اقتربت
و إذا به ألقى عباءته
برح الخفاء بها عن الجهر
صاحت أخي فيكتور وا طربي
روحي ، شقيقي ، مهجتي ، ذخري
و تعانقا ، فبكى فرحا
إنّ البخار نتيجة الحرّ
و تساقطت في الخدّ أدمعها
كالقطر فوق نواضر الزّهر
...
قل للألي يشكون دهرهم
لا بدّ من حلو و من مرّ
صبرا إذا جلل أصابكم
فالعسر آخره إلى اليسر