يائية الرجل الذي بكي نفسه ورثاها
زعم كثيرُ من أهل الأدب، والمهتمون به، إن الرجل الذي رثي نفسه، هو واحدٌ لم يتكرر، ولم تتكرر مثل يائيته الشهيرة، ولكن الحقيقة إن الذين يرثون أنفسهم هم كثر، فمنهم شباب وكهول فالشاب الذي خرج للحياة طموحاً بآماله العراض وقد تكسرت هذه الآمال والطموحات، علي صخر هذه الحياة العصيبة........العنيدة...
لو أوتي هذا الشاب سحر البيان لرثي نفسه أيما رثاء، بأبلغ القصائد، وأروع التعابير، التي تنقلك إلي داخل نفسه، فتلمس أحاسيسه ومشاعره....).وبالفعل إن كثيراً منهم أوتوا تلك الموهبة، وأخرجوا للناس درراً نفيسة، يتمثل بها من يحس في نفسه هذه الحالة، ولقد ذكرت في غير ما مناسبةٍ، إن الشعر هو (نفس الشاعر المنسكبة علي القراطيس، ومشاعرُ الناس المتوجسة خلف الكواليس، لأن ما عبر عن النفس هو يعبر عن النفوس، فهو معني لدي الناس محسوس وعن تعبيراتهم مدسوس، حتى يأتي الشاعر فيخرجه بأيدٍ سحرية! ) .
ومنهم علي سبيل المثال لا الحصر، صاحبنا الشهير، وصديقنا اللدود، أبو الطيب المتنبئ، ذلك الذي ذهب طموحه مدي قصيا، فتمزقت نفسه بين الثري والثر يا....ذلك أنه اصطدم علي صخرة الواقع والسياسة العربية آنذاك – ما أشبه الليلة بالبارحة – فانهار حلمه في الملك والتملك، بموت صاحبه (فاتك) الذي رثاه بعينيته الشهيرة في ذلك...... وإنما حقيقةُ الأمر، أن أبا الطيب هو الذي رثي نفسه وآماله وطموحه...وهو حي يمشي علي الأرض.
وقصيدته هذه، بها شجن غريب..... تكاد تحس بأنفاسه الساخنة الملتهبة، تصلى وجهك وأنت تتابعها بعينيك في الكتاب....... وهذا تجده في مطلعها الذي يقول:
الحزن يقلق والتجمل يردع *** والدمع بينهما عصيٌّ طيّعُ
يتنازعان دموع عينِ مسهد *** هذا يجيئ بها وهذا يرجع
وهنا نستميح أبا الطيب عذراً، أن نتركه لنرجع إلي الوراء، إلي ذلك العملاق، أبي ذؤيب الهذلي..... الذي كأنما عارضهُ أبو الطيب، بقصيدته هذه، في وزنها، ورويها، وبعض أنفاسها وأشجانها، وعينيةُ أبي ذؤيب، التي رثي فيها أبناءه الأربعة مطلعها:
أمن المنونِ وريبه تتوجعُ؟ *** والدهرُ ليس بمعتبٍ من يجزعُ
ومنها البيت الشهير جداً:
وإذا المنيةُ أنشبت أظفارها *** ألفيت كل تميمةٍ لا تنفعُ
وكذلك نحن نترك، أبا ذؤيب، وتفجعه علي أبنائه، والحكمة التي يرسلها بين الفينةِ والأخرى، في أثناء قصيدته، لنعود عبر كبسولة الزمن إلي العصر الحديث، والحديث جداً ! إلي أحد أصدقائي، الذي كان له من الآمال، ما تزاحم الثريا في مصامها.. وان كان قد أصاب حدً قلبه فلولٌ، علي رأي أبي الطيب:
يا نظرة نفت الرقادَ وغادرت *** في حدَّ قلبي ما حييتُ فلولا
فأبياته التي بها نفسّ، من عينيةِ أبي الطيب وبكائيته، يبدؤها صديقي بقوله :
القلبُ ينزفُ والدموع دماءُ *** والحزنُ يقلق والحبييب سماءُ
هذا الجميلُ بل البديعُ بل الذي *** دنيا طيوفِ طيوفِه زهراءُ
أو هكذا كان يراها، لذلك كان سعيه نحوها.... وبعدها عنه، ولدَّ كل تلك الطاقة، التي هي أشبه بالطاقة التي يولدها التفريغ الكهربائي، فتصهر الحديد......فتأمل!!
بعد إثباتنا أن الذي رثي نفسه، غير واحد نعود لصاحب اليائية الحزينة..الذي رثي بها نفسه وهو في الرمق الأخير.. وقد جاد بكلتيهما قصيدته.. ونفسه .. نعود إلي مالك بن الريب، وما ادراكموا من مالك....
الحقيقة إن كثيراً من الناس، العاديين ودون العاديين.. قد تخرج من أثوابهم، عبقرياتٌ مهولة... !!! إذا اجتمعت الظروف الملائمة التي تخرجها ....
فمالك بن الريب خرج كصعاليك العرب، مغتراً بقوته يتجول في الصحراء يقطع الطريق.. وحينما رأي بعض الفضلاء، من سيمائه، الدالة علي أصالة معدنه.. وطيب عنصره.. أقنعه بان يترك هذا الذي كان يعمله، ويلتحق مجاهداً غازياً في جيش ( سعيد بن عثمان بن عفان) بخراسان فليس مثل مالك، هو يعدٌ من قطاع الطرق.. فكأن لسان حاله يقول:
وما أنا منهمو بالعيش فيهم *** ولكن معدن الذهب الرغام
ثمَّ انه بعد ذلك رجع من خراسان، وفي الطريق عند ( مرو) لدغته حَّيةٌ، فأيقن بالنهاية مما تبين له من حاله، فاتكأ ملتفتاً إلي صاحبيه، يخاطبهما بهذه القصيدة.. ويرثي نفسهُ، أيها القارئ الكريم أمسك عليك أنفاسك، واحبس دمعة منك ان تطفر.. وأنت تتأمل نهرالشجن والذكريات.. والتكرار الموحي بالحنين بشدة لكلمة ( الغضي ) في مطلع الأبيات:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلةَ *** بوادي ألغضي أزجي القلاص النواجيا
فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه*** وليت الغضا ماشي الركاب لياليا
لقد كان في أهل الغضا لودنا الغضا*** مزارٌ ولكنَّ الغضا ليس دانيا
ثم انه بعد هذا يذكر مسيره، إلي خراسان غازياً وقد باع الضلالة بالهدي، وهو يتمني أن لو كان بين أهله، في موطنه، ومرتع صباه، فيا حسرتا علي الغريب، النازح الذي قضى بعيداً عن وطنه..
فلله درِّي يومَ أترك طائعاً *** بنَّيَّ بأعلى الرقمتين وماليا
ودر الظباء السانحات عشيةً *** يخبِّرنَ أني هالكٌ من ورائيا
ودرُّ كبيريًّ اللذين كلاهما *** علي شفيق ناصحٌ لو نهانيا
ودرٌّ الهوي من حيث يدعو صحابه*** ودرٌّ لجاجتي ودرٌّ انتهائنا
وها هو يتحدث عن حصانه المسكين، من يسقه ويعلفه، في هذه الصحراء، المترامية الأطراف ومن يبكي عليه، ومن يعزي فيه، غير هذا الحصان.. وهذا السلاح الذي يتدرعه لذلك .. يخاطب صاحبيه، أن يرفعاه ليري (سهيلاً) الذي يطلع من جهةِ موطنه لأنه أثرٌ من تجاههم وأيّ اثر من جهتهم، يملأ عليه جوانب نفسه، بهذا الشعور الذي لا يستطيع أن يلمسه من أيِّ جهةٍ كانت، لكنه يشجيه حتى النخاع وحتى الثمالة.. وأبعد من ذلك.
ثمَّ أنه يوصي صاحبيه أن ينزلاه برابية يقيم فيها ما تبقي له، من ليالٍ بل ساعات وأن يغسلاه بعد الموت بالسدر، وأن لا يبخلا عليه، أن يوسعا له من الأرض ذات العرض، وأن يجراه ببرديه، ألا تفهم أيها القارئ الكريم، كم هو ثقيل الوزن من هذه العبارة!!
فقد كان قبل اليوم قياده صعباً وقد كان عطافاً بالخيل، فارساً مغموراً وذكر من مناقبه ما ذكر..
وها هو في نهاية القصيدة يتذكر أمه وهل هي ستبكي عليه، مثلما أنها لو ماتت قبله، كأن سيبكي عليها، فالقصيدة نهر من الأنغام والأشجان المتدفقة المنصبة في قرارات النفوس.. فيا مالك بن الريب، لم يبكك ذووك فقط بل بكاك جمهور عريض من قراء العربية مع ذويك الذين ذكرت منهم...........
وبالرمل منا نسوة لو شهدنني *** بكين وفدين الطبيب المداويا
ومنهنًّ أمي وابنتاها وخالتي *** وباكية أخري تهيج البواكيا
وما كان عهد الرمل مني وأهله*** ذميماً ولا بالرمل ودعتُ قاليا
محمد الخليفة محمدصالح عكاشة