من أقوال البرامكة
من قول يحيى بن خالد لابنه جعفر : يا بني ، ما دام قلمك يرعف فامطره معروفاً . ومن كلام جعفر : إذا أحببت إنساناً من غير سبب فارج خيره ، وإذا أبغضت إنساناً من غير سبب فتوق شره .
الرشيد يبكي على البرامكة
قال يحيى بن سلام الأبرش ، قال : حدثني أبي قال : خرج الرشيد للصيد يوماً بعدما أباد البرامكة فاجتاز بجدار خراب من جدران بني برمك فرأى لوحاً مكتوباً عليه هذه الأبيات :
يا منزلاً لعب الزمان بأهله . . . فأبادهم بتفرق لا يجمع
إن الذين عهدتهم فيما مضى . . . كان الزمان بهم يضر وينفع
أصبحت تفزع من رآك ، وطالما . . . كنا إليك من المخاوف نضرع
ذهب الذين يعاش في أكنافهم . . . وبقي الذين حياتهم لا تنفع
قال : فبكى الرشيد ، وأقبل على الأصمعي وقال : أتعرف شيئاً من أخبار البرامكة تحدثني به ؟ فقال الأصمعي : ولي الأمان . قال : ولك الأمان . فقال : أحدثك بشيء شاهدته بعيني من الفضل بن يحيى ، وذلك أنه خرج يوماً للصيد والقنص ، وهو في موكبه ، إذ رأى أعرابياً على ناقة قد أقبل من صدر البرية يركض في سيره ، قال : هذا يقصدني . فقلت : ومن أعلمك ؟ قال : لا يكلمه أحدٌ غيري . فلما دنا الأعرابي ورأى المضارب تضرب والخيام تنصب والعسكر الكثير ، والجم الغفير ، وسمع الغوغاء والضجة ، ظن أنه أمير المؤمنين ، فنزل وعقل راحلته وتقدم وقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته . قال : الآن قاربت ، اجلس . فجلس الأعرابي فقال له الفضل : من أين أقبلت يا أخا العرب ؟ قال : من قضاعة .
قال : من أدناها أم من أقصاها ؟ قال : من أقصاها . قال الأصمعي : فالتفت إلي الفضل وقال : كم من العراق إلى أرض قضاعة . ؟ فقلت : ثمانمائة فرسخ . فقال : يا أخا العرب ، مثلك لم يقصد من ثمانمائة فرسخ إلى العراق إلا لشيء. قال : قصدت هؤلاء الأماجد الأنجاد الذين قد اشتهر معروفهم في البلاد . قال : من هم ؟ قال : البرامكة . قال الفضل : يا أخا العرب البرامكة خلق كثير ، وفيهم جليل وخطير ، ولكن منهم خاصة وعامة ، فهلا أفردت لنفسك منهم من اخترت لنفسك وأتيته لحاجتك ؟ قال : أجل أطولهم باعاً وأسمحهم كفاً . قال : من هو ؟ قال : الفضل بن يحيى بن خالد . فقال له الفضل : يا أخا العرب ، إن الفضل جليل القدر عظيم الخطر ، إذا جلس للناس مجلساً عاماً لم يحضر مجلسه إلا العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء والكتاب والمناظرون للعلم ، أعالم أنت ؟ قال : لا . قال : أفأديب أنت ؟ قال: لا . قال : أفعارفٌ أنت بأيام العرب وأشعارها ؟ قال : لا . قال : هل وردت على الفضل بكتاب وسيلة ؟ قال : لا . فقال : يا أخا العرب غرتك نفسك ، مثلك يقصد الفضل بن يحيى ، وهو كما عرفتك عنه من الجلالة ، بأي ذريعة أو وسيلة تقدم عليه ؟ قال : والله يا أمير المؤمنين ما قصدته إلا لإحسانه المعروف وكرمه الموصوف وبيتين من الشعر قلتهما فيه . فقال الفضل : يا أخا العرب أنشدني البيتين فإن كانا يصلحان أن تلقاه بهما أشرت عليك بلقائه ، وإن كانا لا يصلحان أن تلقاه بهما بررتك بشيء من مالي ورجعت إلى باديتك وإن كنت لم تستحق بشعرك شيئاً . قال : أفتفعل أيها الأمير ؟ قال : نعم . قال : فإني أقول :
ألم تر أن الجود من عهد آدم . . . تحدر حتى صار يملكه الفضل
ولو أن أماً قضها جوع طفلها . . . ونادت على الفضل بن يحيى اغتذى الطفل
قال : أحسنت يا أخا العرب . فإن قال لك هذان البيتان قد مدحنا بهما شاعر ، وأخذ الجائزة عليهما ، فأنشدني غيرهما فما تقول ؟ قال : أقول
قد كان آدم حين حان وفاته . . . أوصاك ، وهو يجود بالحوباء
ببنيه أن ترعاهمو ، فرعيتهم . . . وكفيت آدم عيلة الأبناء
قال : أحسنت يا أخا العرب ، فإن قال لك الفضل ممتحناً : هذان البيتان أخذتهما من أفواه الناس ، فأنشدني غيرهما ما تقول ، وقد رمقتك الأدباء بالأبصار ، وامتدت الأعناق إليك ، وتحتاج أن تناضل عن نفسك ؟ قال : إذن أقول :
ملت جهابذ فضل وزن نائله . . . ومل كاتبه إحصاء ما يهب
والله لولاك لم يمدح بمكرمة . . . خلق ، ولم يرتفع مجد ولا حسب
قال : أحسنت يا أخا العرب ، فإن قال لك هذان البيتان أيضاً أخذتهما من أفواه الناس ما كنت قائلاً ؟ قال : أقول :
وللفضل صولات على مال نفسه . . . يرى المال منه بالمذلة والعنا
ولو أن رب المال أبصر ماله . . . لصلى على مال الأمير وأذنا
قال : أحسنت يا أخا العرب ، فإن قال لك الفضل : هذان البيتان مسروقان ، أنشدني غيرهما ما تقول ؟ قال : إذن أقول :
ولو قيل للمعروف ناد أخا العلا . . . لنادى بأعلى الصوت يا فضل يافضل
ولو أنفقت جدواك من رمل عالج . . . لأصبح من جدواك قد نفد الرمل
قال : أحسنت يا أخا العرب ، فإن قال لك الفضل : هذان البيتان مسروقان أيضاً أنشدني غيرهما ما تقول ؟ قال : أقول :
وما الناس إلا اثنان : صب وباذلٌ . . . وإني لذاك الصب والباذل الفضل
على أن لي مثلاً كما ذكر الورى . . . وليس لفضلٍ في سماحته مثل
قال : أحسنت يا أخا العرب ، فإن قال لك الفضل : أنشدني غيرهما ما تقول ؟ قال : أقول أيها الأمير :
حكى الفضل عن يحيى سماحة خالد . . . فقامت به التقوى وقام به العدل وقام به المعروف شرقاً ومغرباً . . . ولم يك للمعروف بعدٌ ولا قبل
قال : أحسنت يا أخا العرب ، فإن قال لك : قد ضجرنا من الفاضل والمفضول أنشدني بيتين على الكنية لا على الاسم ما تقول ؟ قال : إذن أقول :
ألا يا أبا العباس يا واحد الورى . . . ويا ملكاً خد الملوك له نعل
إليك تسير الناس شرقاً ومغرباً . . . فرادى وأزواجاً كأنهم نحل
قال : أحسنت يا أخا العرب ، فإن قال لك الفضل : أنشدنا غير الاسم والكنية والقافية . قال : والله لئن زادني الفضل وامتحنني بعد هذا لأقولن أربعة أبيات ما سبقني إليها عربي ولا أعجمي ، ولئن زادني بعدها لأجمعن قوائم ناقتي هذه وأجعلها في حر أم الفضل وأرجعن إلى قضاعة خاسراً ، ولا أبالي . فنكس الفضل رأسه ، وقال للأعرابي : يا أخا العرب أسمعني الأبيات الأربعة : قال :
أقولك ولائمةٍ لامتك ، يا فضل ، في الندى . . فقلت لها : هل يقدح اللوم في البحر
أتنهين فضلاً عن عطاياه للغنى . . . فمن ذا الذي ينهى السحاب عن القطر
كأن نوال الفضل في كل بلدةٍ . . . تحدر هذا المزن في مهمة قفر
كأن وفود الناس في كل وجهة . . . إلى الفضل لاقوا عنده ليلة القدر
قال : فأمسك الفضل عن فيه ، وسقط على وجهه ضاحكاً ، ثم رفع رأسه وقال : يا أخا العرب ، أنا والله الفضل بن يحيى ، سل ما شئت . فقال : سألتك بالله أيها الأمير إنك لهو ؟ قال : نعم . قال له : فأقلني . قال : أقالك الله ، اذكر حاجتك . قال : عشرة آلاف درهم . قال الفضل : ازدريت بنا وبنفسك ، يا أخا العرب ، تعطى عشرة آلاف درهم في عشرة آلاف . وأمر بدفع المال ، فلما صار المال إليه حسده وزيره الفضل ، وقال : يا مولاي هذا إسراف يأتيك جلف من أجلاف العرب بأبيات استرقها من أشعار العرب فتجزيه بهذا المال ؟ فقال : استحقه بحضوره إلينا من أرض قضاعة . قال الوزير : أقسمت عليك يا مولاي إلا أخذت سهماً من كنانتك وركبته في كبد قوسك وأومأت به إلى الأعرابي فإن رد عن نفسه ببيت من الشعر ، وإلا استعدت مالك ، ويكون له في بعضه كفاية .
فأخذ الفضل سهماً وركبه في كبد قوسه وأومأ به إلى الأعرابي وقال له : رد سهمي ببيت من الشعر ؟ فأنشأ يقول :
لقوسك قوس الجود والوتر الندى . . . وسهمك سهم العز فارم به فقري
قال : فضحك الفضل وأنشأ يقول :
إذا ملكت كفي منالاً ولم أنل . . . فلا انبسطت كفي ولا نهضت رجلي
على الله إخلاف الذي قد بذلته . . . فلا مسعدي بخلي ولا متلفي بذلي
أروني بخيلاً نال مجداً ببخله . . . وهاتوا كريماً مات من كثرة البذل
ثم قال الفضل لوزيره : أعط الأعرابي مائة ألف درهم لقصده وشعره ، ومائة ألف درهم ليكفينا شر قوائم ناقته . فأخذ الأعرابي المال وانصرف ، وهو يبكي فقال له الفضل : مم بكاؤك يا أعرابي استقلالاً بالمال الذي أعطيناك ؟ قال : لا ، ولكني أبكي على مثلك يأكله التراب وتواريه الأرض ، وتذكرت قول الشاعر :
لعمرك ما الرزية فقد مال . . . ولا فرس يموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد حر . . . يموت لموته خلقٌ كثير
وتوجه الأعرابي بالمال مسروراً رحمة الله عليهم أجمعين .