•• لم تكن لدينا أدنى فكرة عن أواصر القربى التي تجمع بين تلك القرى الثلاث المتجاورة : الحرف، والقيرع، ثم شهران، لنكتشف ذلك مصادفة أثناء القيام بجمع الأخبار المتعلقة بالحرف ونحن نتنقل بين السكان المحليين فوجدناهم يتحدثون عن ثلاث قرى ويربطون بين أخبارهن مجتمعات مما دعانا لتخصيص هذه الحلقة عن القريتين: القيرع وشهران غربي الحرف، لنضع المعلومات التي عثرنا عليها بين يدي القراء خدمة للمعرفة وتوثيقا للأثر الهام الذي تشكلانه أسوة ببقية القرى الأثرية المنوه عنها في جولاتنا السابقة.هوية المعرفة!•• هنا رسالة وددت أن تبلغ كافة المعنيين بتاريخ القطاع الجبلي على مستوى منطقة جازان، وهي :إن المعرفة الإنسانية الأصيلة لا تنتمي لقومية معينة، ولا تصدر عن عنصرية، ولا تحركها قبلية أو رابطة اجتماعية ما؛ فهويتها إنسانية بشرية بحتة، وهو الفهم الذي نسعى لتكريسه عبر استطلاعاتنا هذه .وما دام الحال على ماذكر أعلاه، فإننا نشفع رسالتنا هذه برجاء من كافة المثقفين والمتابعين التفاعل مع مشروعنا الثقافي بالنقد والمقاربة بما يكفل نجاحه ليسد ثغرة واضحة في مكتبتنا العربية وليكون وثيقة مرضية نقدمها للأجيال المقبلة.
وبما أن الجهد الفردي عادة ما يخرج هزيلا هشا فقد عمدنا إلى تكوين فريق من المهتمين بالتاريخ والآثار والمتخصصين في اللغة والآداب سعيا للخروج بعمل يتسم بالشمولية والدقة،مع التأكيد أن بلوغ الكمال غاية لا يستطيع العمل البشري تحقيقها مهما اجتهد، وإنما حسبنا من السوار ما أحاط المعصم.
ويبقى الأمل مشرعا أن يعزز هذا الفريق بنخب مميزة يكون انتماؤها الأول للثقافة والمعرفة فحسب.
منهجنا في التوثيق
•• اعتاد الفريق أن يوكل لي شخصيا مهمة كتابة النص كاملا بكلا من عناوين رئيسية وفرعية، دون أن يملي مشورة، أورغبة سابقة، وقد يتحفظ لاحقا على بعض الأرقام، والتواريخ ويضيف ويستدرك ما أخل به النص المنشور ويصوب الأغلاط التي ترد في ثناياه أو خلال العناوين المتفرقة، ورصده ليتم ادراجه في المادة الأصلية للكتاب، كل هذا يجيء رغم ثقتهم العمياء فيما أدونه من اجتهادات أحسبها لن تمس من قوة النص ومصداقيته،أو تضعضع من منهج التوثيق الصارم الذي نسير عليه من توخي الدقة وعدم المجازفة أو ركوب التكهنات والتخمينات التي لا تفيد العلم.
تعاملنا مع الملتقطات
•• توخيا للدقة في اجراءات التوثيق، فإن كافة الملتقطات من المواقع السابقة تم رفعها ضمن مستوعبات خاصة بكل موقع على حدة مكتوب عليه تاريخ الالتقاط وعدد القطع من الخزف وسواه، ثم تحفظ العينة لدى الأستاذ حسن جابر أو عندي للاستفادة منها كوثيقة يمكن من خلالها معرفة عمرها عن طريق مختبرات أقسام الآثار في جامعاتنا .
زيارة خاطفة لقرية شهران!!•• وعودا علي بدء فقد كانت الساعة تشير إلى الواحدة ظهرا عندما لاح لنا طريق ترابي ينعطف شرقا عند نقطة قريبة من قرية الحناية حيث بادرني الزميل حسن جابر قائلا : لا شك عندي إن هذا الطريق سيوصلنا لقرية شهران بناء على صور الأقمار الصناعية التي قمت بمراجعتها عدة مرات حتى حفظت معالمه بدقة تامة.استدرنا تاركين وراءنا الطريق العام ومسافة أربعة أكيال تفصلنا عن المحطة التي كنا نقصدها للتزود بالمياه التي نفدت منا تماما، ولهذا فقد كانت خطتنا تقضي أن نسلك الطريق صعودا لأخذ فكرة مناسبة عنه حتى إذا لامسنا جانب القرية عدنا أدراجنا، وذلك تمهيدا لإجراء المسح في وقت قادم ونحن في كامل استعدادنا.
لم يكن الطريق صعبا على سيارة ذات دفع رباعي فتقدمنا صعودا حتى وجدنا أنفسنا وسط قرية شهران الصامتة.
كان منظرها فخما مهيبا ومختلفا عما كان في الذهن سواء حيال أطلالها التي لم نتوقع أن نجدها بهذه الصورة أو من حيث شكلها وتوزيع دورها التي انتظمت ذروة الجبل من الشمال إلى الجنوب حتى ميدانها الواسع الذي تنقسم عنده في صفين متقابلين يفصلهما منخفض زراعي وارف الأخضرار.
إن أبنيتها تصطف على هيئة تطابق حرف الـ (Y) اللاتيني، ومع هذا المشهد المغرق في الدهشة نسينا أنفسنا، وانطلقنا نكتشف المكان عند الواحدة والنصف تقريبا وفي درجة حرارة تبلغ الثامنة والثلاثين درجة مؤية وعبر أشعة شمس عمودية لاهبة، ولا ماء لدينا.
المعمار.
•• لست مبالغا حين أصف المعمار هنا بالتفرد عن كل النماذج التي عرضنا لها بالتفصيل سابقا؛ يظهر ذلك بجلاء في عملية التطعيم بأطواق حجر المرو الأبيض فشمل العديد من واجهات الأبنية المستديرة في القلب لتكون اللوحة الأولى التي يشاهدها القادم لقرية ( شهران ) المنسية.
وعلى خلاف النمط السائد في قرية الحرف فقد امتاز البناء هنا بتعدد الطوابق؛ دون أن يخرج عن الشكل الهندسي المعهود الذي يغلب عليه المستدير بينما يأتي المربع أو شبه المستطيل في مرتبة متأخرة قد لا تصل إلى ١٠٪ كحد أعلى.
لا يلزمك الكثير من التأمل كي تدرك التفوق في مساحات الأبنية لقرية (شهران) مقارنة بالأبنية الشبيهة على امتداد القطاع الجبلي بحيث بلغ القطر لأحد الأبنية المستديرة عشرة أمتار وناهز هذا القياس في نماذج عشوائية
منها. ولو اعتبرنا هذا القياس نموذجيا لما يعرف بـ ” الدارة ” أو الـ ” المفتول ” لقلنا بأن العوامل الجغرافية هي من تتحكم فيه اتساعا وضيقا .
المدخل المخروطي!
•• لقد وقفنا نتأمل الشكل الهندسي للمداخل في غالب أبنية القرية بحث ظهر لنا مضطرب القياس فكان العرض عند القاعدة مترا ثم يأخذ في التراجع لينتهي عند ٨٦ سم، ولا يمكننا التكهن ما إذا كان النجار يسير وفق هذا القياس عند تركيب الأبواب الخشبية؛ أم أنه يتجاهلها، والغالب أنه يخضع لهذا القياس المخروطي، رغم عدم وجود أبواب أو إطارات متبقية يمكنها أن تكشف لنا الوظائف التي يؤديها هذا النمط الهندسي المتعلق بالمداخل، ولعل البديهي منها هو :
١- الاستغناء عن خشبتي ( الشُرَّق ) في المدخل ( الباب ) وذلك بوضع حجرة مستطيلة ذات سماكة مناسبة تجمع البناء عند ذروة المدخل، وهذا يزيد من متانة البناء وعدم تأثره بالحريق أو انكسار إحداهما .
٢- انسياب حركة الأثاث الخشبي في الاتجاهين في حال تنفيذ المداخل وفق هذه الهندسة المعمارية.
البناء من الداخل.•• يحتوي الجدار الداخلي على العديد من الـ (المرادم) فصيحة رف حجري، والقتر المتباينة في الأحجام والارتفاعات كمستوعبات لحفظ الأمتعة الهامة والدقيقة التي تدخل ضمن الاستخدامات النادرة والمتباعدة، و “القُتَر” (جمع فصيح ) أما في الأبنية المربعة فتأتي المرادم في تنظيم جميل وفق ذائقة فنية عالية بحيث تحتل الزوايا في ارتفاعات شبه منتظمة وكأن هندسة الديكور المعاصر قد اقتبست هذه الطريقة وعلى غرارها جاءت الزوايا الخشبية التي تحتل أركان الغرف في بيوتنا الحديثة.السقف•• تعتمد هندسة السقف في أبنية قرية ( شهران) ذات الطريقة القديمة التي تميز الأسقف الخشبية للبيوت الحجرية حتى منتصف القرن الثالث عشر الهجري، بحيث يتم وضعها على إطار داخلي فلا تدخل ضمن الجدار الأساسي، الأمر الذي يمكنهم من استبدال المعطوب وتغيير التالف دون نقض البناء، وهي طريقة تضع في اعتبارها حوادث الحريق وتلف أخشاب السقوف لأي سبب بحيث يظل البناء محتفظا بمتانته في كل الأحوال.النوافذ.•• لقد كشفت لنا الهندسة المتبعة في تنفيذ المداخل والتي تحدثنا عنها قبل قليل؛ كشفت لنا سر تنفيذ النوافذ وفق هذا الطراز المعماري القديم، وهو التدعيم بأعمدة حجرية تقسم النافذة عند المنتصف وذلك تحاشيا لدخول مادة الخشب ضمن الجدار الأساسي في البناء لأن تعرضه للعطب كالانكسار والاحتراق من شأنه تداعي الجدار وتهدمه، وإعادة البناء مهمة شاقة لا تقارن بعملية استبدال أخشاب السقف في حالة نشوب الحرائق.
الوحدات الزخرفية
•• لقد بقيت الوحدات الزخرفية على وتيرتها المعهودة على مستوى النوافذ والعقود فظهر المعين المقسوم بسطر أفقي هو الوحدة الزخرفية الثابتة، وبقيت الحشوة العلوية بأحجار المرو دون اختلاف .. وإن كان لنا أن نشير لأحزمة المرو التي دخلت ضمن البناء لهذه القرية العريقة فلا يمكننا تصنيفها كوحدة زخرفية طالما لم تحافظ على نسق مميز مهما كان الغرض منها جمالي بحت، فقد رأينا كيف اتخذت خطوطا متباينة ومواضع مختلفة وهذا وحده يجعلها مجرد تطعيم ارتجالي لا يخضع لقاعدة زخرفية معينة.
نبش مخازن الغلال •• لقد عثرنا على مدفن للحبوب أثناء تراجعنا من الرأس الغربي للقرية، وكان مكشوفا وقد نزعت سدادته الحجرية بطريقة تنبئ عن عبثية حدثت قريبا بحيث تعرض المكان للحفر في أكثر من مكان، واستطعنا التقاط صورة لنموذج بدى وكأن ( صَوْرٌ ) حفرة مستطلية في الحجر الرملي لوضع الأدم تمهيدا لدباغتها.قلتُ: ليس بجديد علينا موضوع التنقيب والبحث والتفتيش الذي تتعرض له الأماكن الأثرية من قبل بعض العامة البسطاء الذين يؤمنون بحكايات الكنوز المدفونة في جرار مملوءة بالذهب والفضة والحلي، بل لقد شاهدت قبورا مفتوحة في أماكن عدة لم تفتح إلا بفعل فاعل جاهل يمني نفسه بكشف عظيم فلا يجد سوى العضام النخرة فلا حول ولا قوة إلا بالله.الحياة الاجتماعية
•• لقد استوعبت قرية شهران في شبابها وأوج ازدهارها مجتمعا مثاليا يحمل روح المدنية فكرا ونظاما، يقدر تعداده بحوالي ٢٠٠ نسمة يتوزعون ٥٠ دارا بين طابق وطابقين يتوسطها ميدان فسيح ربما استخدم ساحة لإقامة المناسبات الخاصة كالختان والزواج ونحوه. أما ملامح المثالية فتظهر في روعة ما بقي من آثرهم الذي يدل على الإتقان والجدية والتفاعل مع الحياة.
أما كونه يحمل روح المدنية فكرا ونظاما فيؤكد ذلك هذا الحشد من البيوت التي لا تفصلها عن بعض سوى أمتار قليلة إن تباعدت وإلا فهي ملتصقة متجاورة في نظام حميمي يتسم بالوداعة والسلم مهما كان مجتمع تنتمي لأصل واحد.المحاجر المستخدمة
•• بالنظر إلى حجم القرية فإنه لايمكننا الجزم بأن الأحجار المستعملة في بنائها قد تم توفيرها من نفس الموقع، كما أننا لم نلحظ مايشير لذلك كون الأرض التي تقوم عليها القرية ترجع نوعية قشرتها جيولوجيا إلى الججر الرملي الهش ولهذا نرجح أن تكون نسبة منها قد جلبت من محاجر متفاوتة بواسطة الإبل كما أشار بعضهم.
لقد كان من الواضح أن الأحجار المستخدمة قد اختيرت بعناية تامة، فكانت الأبنية المتبقية والأطلال المنتشرة هنا تشكل بناء نموذجيا في الإحكام والانسجام بين قطع أحجارها من حيث التناسب والتشذيب.
من سكن هذه القرية؟.
•• ُيرجِع كبار السن ممن التقتهم صحيفة فيفاء أون لاين هذه القرية لآل المُعَدِّي وهم فرع يعود لقبيلة أل سَعْمَدْ من قبيلة بني الغازي العريقة، ولا يعرف الزمن التقريبي الذي هاجروا فيه وتركوا القرية لعوامل الزمان، وكما يشتركون مع سكان قريتي القيرع والحرف في النسب فإنهم أيضا يشتركون معهم في اقتسام الماء من البئر الهلالية رغم بعد المسافة بين القرية والبئر التي يُجلب إليها الماء في القرب على كواهل النساء كما هو الحال في ذلك الزمن الغابر حيث كانت هذه المهمة من الأعمال التي تختص بها المرأة .
الشيخ / محمد جبران الغزواني . الشيخ/ حسن أحمد الغزواني ..
الميزاب
•• لقد بقي الميزاب الوحيد صامدا في وجه عوادي الزمن حيث يستقر في ذروة أحد الأبنية المستديرة ضمن الرأس الغربي، ولأنه يتخذ في العادة من خشب العرعر المتين؛ فقد كان الخشبة الوحيدة المتبقية ضمن تفاصيل هذا الطلل كذراع واهنة تمتد نحو الشرق في ميول واضح إلى الأرض.
علامات التقادم
•• أشرنا سابقا لقشرة الأرض هنا وهي من الحجر الرملي الذي تقف عليه أساسات الأبنية للقرية ومع تقادم الزمن وتوالي العامل الجوية من حرارة وبرودة وأمطار ورياح فقد كان لها أثرها الواضح على الأساسات التي ظهر بعضها معلقا وقد تهشم تحتها الحجر الرملي، ورغم ذلك فقد بقيت الجدران متماسكة دون أن تتأثر لما لحق أساساتها من الضعف والوهن، وليتذكر القارئ أننا ألمحنا إلى نوعية الحجر الممتازة التي استخدمة في البناء إلى جانب المهارة العالية والإتقان من قبل البنّائين الذي تعاورا العمل في تشييد هذه القرية النموذجية بين الأبنية التي عاصرتها في حدود القرن الحادي عشر الهجري .
الخزفيات
•• يشير الفحص السريع الذي أجريناه قبل المغادرة على حجم الخزف المنتشر ضمن الموقع أن عمر القرية التقريبي يربو عن أربعمائة سنة وقد تفصح النتائج المخبرية عما يخالف تقديرنا الزمني بفترة أقدم.
ونؤكد في ختام جولتنا هذه إلى أهمية الموقع أثريا ونقترح على المثقفين والمهتمين بالتاريخ من إخوتنا في بلغازي العناية بهذه الآثار دراسة وبحثا فإنها كفيلة بالكشف عن خفايا التاريخ المجهول للمنطقة..