شخصية المرأة في قصص القرآن الكريم
الحقيقة التي لا تنكر أن الإسلام قد أنصف المرأة، لم ينصفها في جانب واحد وكفى، وإنما أنصفها في جوانب عديدة.. الأمر الذي يدل على أنه ليست مجرد عناية بالمرأة فحسب، وإنما هي ثورة تتناول جميع الجوانب وتلمس جميع الأوضاع، وتلك نقطة انطلاق هذه المقالة المتواضعة.
لقد أنصف القرآن المرأة من ناحية القوانين التي استنها... وأنصفها من ناحية المعاملات التي حث عليها، وأنصفها من نواح عدة تستطيع أن تراجعها في الكتب الكثيرة التي ألفت حول هذا الموضوع.
وكما أنصفها من جانب آخر هو أهم الجوانب دلالة على صدق هذه الثورة، إنه الجانب الأدبي.. إنه شخصية المرأة في قصص القرآن في إطار الحرية الفنية والتنوع في التناول. فلقد تحدث الباحثون عن النواحي الكثيرة والمدهشة التي نهض فيها الإسلام بالمرأة، ولكنهم للأسف أغفلوا هذا الجانب الهام.
وظهور هذا الجانب في القصص القرآني، يدل على أن الاعتراف بشخصية المرأة أمر يسري في عروق الإسلام ويختلط بحناياه... فكثير من الدعوات دعت في قوانينها البارزة إلى احترام المرأة، ولكن هذه الدعوة لم تنعكس على نتاجها الأدبي ولم يكن لها رد فعل في آثارها الفنية، ولكن الإسلام طابق بين دعوته وبين نتاجه الأدبيً.
والمتصفح لقصص القرآن يلاحظ أن إبراز شخصية المرأة يبدو في جانبين: الجانب الذي يتحدث عن المرأة كشخصية مستقلة، لها دورها الفعال وأثرها الواضح، والجانب الذي يعبر عن أدق مشاعر المرأة ويشف عن نفسيتها وعن كل ما فيها من جوانب وزوايا.
والإيمان بشخصية المرأة يبدو واضحاً في القصص القرآني حتى أن القرآن لا يجد غضاضة في أن يسمي سورة كاملة باسم امرأة هي «مريم».
والإيمان بأن المرأة تساوي أخاها الرجل يظهر في قصة البشرية الأولى، فحواء خلقت من آدم وسكنا معاً الجنة، وكان خطاب الله لهما بألا يقربا الشجرة واحداً، ولم يخاطب آدم ليبلغ حواء وإنما جمعهما في ألف واحدة هي ألف التثنية دلالة على أنهما شيء واحد يمتزجان فيصيران كالألف الواحدة، ودلالة على أن حواء مسؤولة مسؤولية زوجه، فهي تقاسمه المسؤولية وتتحمل معه التكليف... ثم كانت الخطيئة الأولى.. ولم يذكر القرآن – كما ذكرت التوراة – أن حواء هي التي بدأت بالخطيئة ثم أغرت رجلها، بل جعل الخطيئة مشتركة بينهما «فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا»، إن الخطيئة منهما سواء، كما أن المسئولية عليهما سواء. وبذلك خلص القرآن من الوصمة التي لحقتها منذ قديم، من أيام الأساطير الإغريقية التي ترى أن المرأة هي سبب الآلام والأحزان في العالم.
بيد أن القرآن لم يجار هذه الفكرة، بل أنقذ القرآن المرأة من فكرة استولت على الناس آلاف السنين وحررها من تلك النظرة الجائرة، فجعل الخطيئة منها ومن زوجها، وجعل المسئولية عليها وعلى رجلها. وانظر إلى القرآن حين يتحدث إلى آدم وزوجته، أو حين يتحدث عنهما فإنه يتحدث وكأنه يتحدث إلى شيء واحد «فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ» ثم «فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ»، وحين تتم الفعلة فإنها تتم منهما «فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا»، وحين يوجه الله العتاب لا يوجهه إلى واحد منهما بل يوجهه إليهما معاً «وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ»، وحين يتوب آدم وحواء ويعترفان بالخطيئة فإن الله يتحدث عن ذلك بلسان واحد «قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا».
وتبدو المساواة مرة أخرى في تلك اللمحة القرآنية الرائعة... فإبراهيم وزوجه قد بلغا من الكبر عتيا، وقد أراد الله أن يبشرهما بغلام حليم، وتتكرر قصة البشارة في القرآن أكثر من مرة، مرة يبشر فيها إبراهيم «فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ» وأخرى تبشر فيها زوجه «فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ» وتكرار تلك الواقعة بهاتين الصورتين يدل على أن القرآن في قصصه يلجأ إلى نوع من الحرية الفنية في تناوله مسائل التاريخ إذ لا يتقيد بالحقيقة التاريخية وإنما يستبيح لنفسه ما يستبيحه في صوغ قصة تاريخية... بل إن هذا التكرار يدل على نظرة القرآن إلى المرأة وزوجها وعلى أنهما شيء واحد.
ولا يقف الأمر عند حد المساواة، بل إن للمرأة شخصية تستقل في بعض الأحيان عن شخصية زوجها؛ ففي بعض القصص القرآني تبرز لنا المرأة شخصية لا تسير في ركاب زوجها ولا تنساق في تياره، بل لها شخصيتها المستقلة التي تحرص عليها وتؤمن بها، ولها مبادئها التي تعتنقها وتدافع عنها، فقد ضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ أنها لم تنسق في تيار زوجها ولم تجرفها حياته فصنعت لها حياة خاصة بها، وانظر إلى القرآن يحكي ذلك «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ».
وفي مقابل ذلك يضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط، فقد بدا لكل واحدة منهما أن تشذ عن مبادئ زوجها وألا تسايره في دعوته، «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ».
وفي سورة النمل تبدو لنا المرأة شخصية عظيمة، فهي تملك قوماً أولي قوة وأولي بأس شديد ولها عرش عظيم، وهي تتصف بروح الديمقراطية والشورى، فما أن يلقي الهدهد إليها كتاب سليمان حتى جمعت قومها وقالت لهم: «قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ»، وهي تتصف بالذكاء وسداد العقل فلم تندفع مع قومها حين ألقي إليها الكتاب فتعلن الحرب على سليمان، بل قالت قولة تدل على معرفة بمن يحيطون بها «قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ». ولعلها كانت تعرف أمر سليمان الذي سخر له الجن والريح وتعرف ماله من صولة وجولة فلجأت إلى الملاطفة والملاينة «وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ».
وتلعب المرأة في قصة يوسف دوراً خطيراً، إذ كان لها في حياة هذا النبي أثر كبير، فحين لم تصل إلى رغبتها ولم يحقق لها يوسف أمنيتها لم تقف سلبية، وإنما صاحت بأسلوب يدل على التصميم والتهديد «وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِّنَ الصَّاغِرِينَ»، وفعلاً تم لها ما أرادت فقد استطاعت بما وهبته من أسلحة أن تلقي به في السجن بضع سنين.
وفي تلك القصص لا تجد المرأة عيباً في أن تشير إلى عواطفها وأن تلمح إلى رغبتها، فحين رغبت فتاة مدين في موسى عليه السلام لمحت إلى أبيها فقالت «قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ» ولا غضاضة في أن يسعى الأب إلى تحقيق رغبة ابنته فإذا بأبيها يقول لموسى عقب الآية السابقة «قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ»، إن القرآن بتلك اللمحة العجيبة سبق الإنسانية بقرون كثيرة فقد كان لا يسمح للمرأة – حتى وقت متأخر – بأن تعبر عن عواطفها وتلمح إلى رغبتها، وكان ولي أمرها يجد ذلك رجساً وإثماً كبيراً تستحق المرأة بسببه العقاب والزجر، وهكذا نجد شخصية المرأة بارزة في القصص القرآني.
إن التاريخ يشهد أن المرأة في العصر الجاهلي كانت لها أدوار بارزة، فرقاش قادت قبيلة طي في غزواتها، وبهية بنت أوس الطائي رفضت أن يدخل بها زوجها الحارث بن عوف حتى يصلح بين عبس وذبيان، وقد انتسب بعض الشعراء إلى أمهاتهم مثل: شبيب بن البرصاء وابن ميادة والسليك بن السلكة، بل انتسب بعض القبائل إلى الأم مثل بجيلة وخندف وطهية، وعمرو بن كلثوم، وها هو عنترة لايخجل من أن أمه زبيبة العبدة... الخ.
وهكذا نجد للمرأة في القصص القرآني مكاناً فسيحاً، فبعض القصص يفسح للمرأة دوراً خطيراً... وبعضها يعبر عن أحاسيس المرأة وأدق شعورها.
ولا غرو فقد أعاد الإسلام للمرأة اعتبارها، على أنها إنسان يحس ويشعر، في شكل أدبي رفيع، وفي إطار فني يجمع ما بين الحرية والمسؤولية أو هي الحرية المسؤولة لا المسؤولية المتحررة.
الهوامش
1- عبدالحميد إبراهيم: في الأدب والنقد، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، 1966.
منقول للفائدة