بسم الله الرحمن الرحيم
من أدب الكاتب الكبير .. نجيب محفوظ ..
ذاكرة الجيران ..قصة قصيرة .. نجيب محفوظ ..فى ليلة وقفة رمضان
لعام من الأعوام البعيدة الماضية قامت خناقة
مالها الا النبى بين أسرتي برغوث و عميرة .
و كالمألوف فى تلك الظروف اضطراب استقرار الحارة فأغلقت الدكاكين
و صوتت النساء و زاطت الصبية ، و وقف إمام الزاوية و هو يصيح بأعلى صوته :
وحدوا الله ... ما هكذا يستقبل الشهر الفضيل ..
و لكن لم يتمكن أهل الخير من التخليص بين الأسرتين
قبل أن يصاب منهما رجلان مهمان هما :
محمود البرغوتى و الناصح عميرة . و ساءت حالتهما و تدهورت
ففارقا الحياة فى يومين متعاقبين ، و هلّ رمضان فى جو من الوجوم و الأسى
و قال الناس ان هذا لا يرضى الله و لا خلقه ، و انه يجب وضع حد لتلك العداوة المتوارثة ،
خاصة بعد أن اندفع تيارها فى مجرى جديد لم يعد يقنع بالجرحى
و لكنه سجل أول ضحيتين له من الموتى
و قالوا انه على صاحب نفوذ أن يتدخل
و أن يبذل ما يملك من قوة لإقرار الصلح بين المتخاصمين منذ الزمن السحيق .
و بناء على بلاغة إمام الزاوية و ضغوط الأهالى قرر شيخ الحارة أن يتحرك .
دعا الى دكانه كبيري الأسرتين : على برغوث و خليل عميرة ،
و قدم لهما القهوة و طلب منهما أن يقرءا الفاتحة و يصليا على النبى .
- لنطرد الشيطان عن مجلسنا ..
و قلب عينيه بين الرجلين ثم قال :
- ما بينكما قديم ، و ضحاياه من الجرحى لا يحصون على المدى الطويل ،
و لكن بالأمس القريب مات رجلان و لا كل الرجال ،
و الموت يدفع الى الموت و المسألة لم تعد محتملة و الجميع يريدون لها أن تنتهى ،
فلنحتكم الى العقل و الدين لنصفى الحساب القديم و نبدأ حياة جديدة ..
فتوارى كل منهما وراء صمته و عكست الأعين صلابة و ضيقا ، فقال الشيخ :
- لنطرح أسباب الخصام أمامنا ، و ان لزمت دية دفعت أو كانت خطيئة كفر عنها ..
لا داء بلا علاج .. و لا بد للشر من نهاية ..
و لما أنس منها رفضا و عنادا راح يصارحهما بأن أسرتيهما
صارتا تسلية الماجنين من أهل حارتنا ، يضربون بهما المثل فيقولون
لبرغوث و عميرة كما يقال عن القط و الفأر
. يتقابل الكهلان الوقوران منكم فيتبادلان الشتائم ،
تتراءى المرأتان فيدور الردح و التشليق ، أما لقاء الشباب فالعنف و الدم .
و من عجب أننى لم أعثر على شخص فى حارتنا يعرف لخصومتكما سببا ،
أكان زواجا أو طلاقا أو صفقة خاسرة أو جريمة ؟
الظاهر أن السبب ذب فى مخزن التاريخ . و بقيت العداوة وحدها ..
و لكنكما كبيرا الأسرتين و لابد أنكما تعرفان السر ، فلنطرح السبب بيننا ،
و ان لزمت دية دفعت ، أو كانت خطيئة كفر عنها .
ظل جدار الصمت قائما بينهما و بينه فهدهد غيظه و تساءل :
يا معلم على .. ماذا تريد لترضى ،و انت يا معلم خليل .. ماذا تريد لترضى ؟
و بإزاء الصمت المستمر هتف : " يا صبر أيوب " .. ثم وجه خطابه لهما :
اكشفا لى عن سبب الخصام .
ثم بعد فترة يسيرة قال برجاء :
حلفتكما بالحسين أن تتكلما .
لكنهما لم ينبسا بكلمة ، و فى الوقت نفسه قلقت نظرة حيرة فى أعينهما
فاسترد نبرته الحازمة و قال :
لا بد من الكلام ، و الا دعوت الشرطة و النيابة للتدخل فى الشئون
التى تعودنا أن نعالجها بأنفسنا .
و لما قرأ الاعياء فى وجهيهما فض الاجتماع و هو يتمتم :
"لنا عودة" .
و مرت بشيخ الحارة فترة بحث و تقصٍ فسأل الكثيرون من أفراد الأسرتين
عن سبب الخصام و لكنه لم يظفر بجواب ، بل وضح له أنهم يجهلون السبب تماما ،
و كما قال لإمام الزاوية فانهم يذكرون العداوة جيدا و لكنهم لا يعرفون علة لها .
و ركبه التصميم فقرر أن يزور الدفتر خانة ثم دعا الى دكانه كبيرى الأسرتين :
على برغوث و خليل عميرة . و قال لهما بثقة هذه المرة :
- لا أحد يعرف السبب سواكما ،
و ان كنتما تجهلانه كالآخرين فانى على أتم الاستعداد لكشفه لكما ..
فسأله المعلم على بحدة :
من أين لك تلك المعرفة ؟
فأجاب بهدوء الواثق :
فتشت عن ذلك فى دفاتر شيوخ الحارة المعاصرين للأجداد
و قرأت فى دفتر أحدهما .. و وقع نزاع فاضح بين برغوث و عميرة .
عند ذاك صرخ المعلم خليل :
كفى .
فسكت شيخ الحارة قليلاً ثم قال
:
لم يكن الأمر فاضحا بهذه الدرجة فى الزمن القديم
و لكن جرى الزمن و تغيرت القيم فأصبح سبب النزاع مما يوجب الستر ،
فأجمع المتخاصمون على إغفاله حتى نسى
و بقيت الخصومة وحدها تتوارثها الأجيال .
و ابتسم فى وجهيهما ليخفف من وقع حديثه و قال برقة :
- معذرة .. ان هدفى الوحيد
هو الكف عن الأذى و العودة الى حياة الجيران .