دكتورة.م انوار صفار Admin
تاريخ التسجيل : 04/04/2010 البلد /المدينة : bahrain
بطاقة الشخصية المجلة:
| موضوع: الفاتنة «نازك خانُم» بين دمشق وباريس 5/19/2014, 13:31 | |
| الفاتنة «نازك خانُم» بين دمشق وباريس
د. صلاح فضل ٢٢/ ٤/ ٢٠١٤ |
صناعة الجمال وتذوق الفن ونزق العشاق هى مادة الرواية الشيقة «نازك خانُم» التى أصدرتها المبدعة السورية «لينا هويان الحسن» بعد عدد من الروايات الأخرى لتقدم فيها نموذجاً مدهشاً يريحنا من أنباء الصراع الدموى فى الشام، إذ يحمل لنا فوح الحياة العاطرة فى دمشق العاصمة التى عرفت كيف تنجب رجالاً ونساء شغوفين بالجمال قادرين على تذوق الفن فى تواصل مبدع مع مدائن النور والحضارة فى الغرب، دمشق التى تقع اليوم بين شقى الرحى الطاحنة من الطغيان القمعى إلى الأصولية الظلامية كانت منذ نصف قرن فقط مهداً لنازك خانم- وهو ذات اللقب التركى الذى ينطق فى مصر «هانم» وفى الشام كما تكتب بالخاء وفى فرنسا مع مد النون لتصبح هانوم- تقدمها الكاتبة بتنويه مثير: لابد أن هناك بين الدمشقيين من يتذكر أو سمع بنازك خانم، الجميلة التى جلست عارية أمام «بيكاسو» فى شارع دوغراند أوغسطين بباريس، وكانت ضمن العارضات العشر الأوليات اللائى ألبسهن «إيف سان لوران» بدلة «السموكينج» لأول مرة فى التاريخ، وأول امرأة ارتدت البكينى فى مسابح دمشق، وقادت سيارتها بلباس رياضة التنس.. وكانت لها هذه الحكاية «تريد الكاتبة أن توهمنا بتاريخية شخصيتها، لكن ذلك لا يعنينا كثيراً فى فن السرد، بقدر ما يهمنا هذا الألق المتوهج فى نموذجها الإنسانى الفادح فى باريسيته، الممعن فى تمثيل جماليات الحياة المتحضرة لأهل الشام من سوريا ولبنان وهم يشكلون فضاء عربياً باهراً قادراً على مزج ما أحبوه من شهوات الفن وصبوات الحياة العصرية بعطر وجودهم الأصيل، فى اتساق معجب لم تعكره سوى كوارث السلطة وفقر الموارد وظلامية القوى المتربصة بالحكم، لكن ميزة الأدب أنه قادر على إشعال الخيال لتجاوز الواقع الأليم، وبارع فى إعمال الذاكرة كى تستحضر أنضر اللحظات فى تاريخ الأفراد والشعوب للعودة إلى فترات ازدهارها الإنسانى، وليست (نازك خانم) سوى حلقة جديدة فى إبداعات الكاتبة التى تركزت فى نبش الماضى القريب لاستخلاص أجمل ما فيه، كما فعلت فى رواياتها السابقة مثل (بنات نعش) و(معشوقة الشمس) و(سلطانات الرمل) التى تضمنت سيرة أشهر جميلات بادية الشام، فهى فنانة تجيد شحذ أسلحة الأنوثة من جمال وثقافة ودهاء ومهارة فى تلوين أشكال الحياة، وتحضير سلوك المجتمع، بأعمال إبداعية فاتنة تعكس حركة التقدم وتفتح الوعى».
جمال النضج:
تبدأ الكاتبة روايتها عند عودة نازك إلى دمشق منتصف السبعينيات بعد عشرين عاماً قضتها فى باريس، كانت تعرف أنها كائن جميل جداً، صبغت شعرها بالأشقر، وكشفت عن مفاتن جسد مشدود القوام، ملوح بالشمس، غريماتها بررن سر محافظتها على رشاقتها بأنها لم تنجب أولاداً، كانت تسبقها موجة من الإشاعات، «يمرر البعض قصاصات من الصحف الفرنسية تظهر بها فتاة شابة تعرض أزياء مختلفة، فى بعضها ترتدى الفرو، وفى البعض الآخر لباس البحر، أما هى فكانت تردد بجرأة فى المجتمع الدمشقى أن امرأة القرن العشرين كالعبقرية، أى نتيجة نهائية حاسمة لجهد تمت مراكمته خلال قرون طويلة حتى انبثق مكتملاً مرة واحدة» ولأن الكاتبة لاتزال توظف فى سردها صيغة الراوى الغائب العليم بالماضى والحاضر، النافذ إلى أعماق الشخوص فإن من اليسير عليها أن تستحضر فى الصفحات الأولى أصداء ما جرى لنازك فى باريس وهى تتعرف على أساطير الثقافة الأوروبية الحية فى تلك الفترة دون أن تبرر كيف وصلت إليهم، فتقفز بها إلى حضرة الرسام الإسبانى العبقرى «بابلو بيكاسو» لتتبادل معه الحديث، فيسألها عن «عشتار»- لأنه يعرف ربات الجمال فينوس وأفروديت، فتشرح له نازك «وقد جعلها تجلس لتشبه امرأة من الميثولوجيا الإغريقية اسمها (ليدا)، تشرح له أن عشتار هى جدة فينوس وأفروديت، إنها ربة الجمال فى الشرق، وتسأله بدورها عن (ليدا) فيقول لها إنها امرأة أعجبت كبير آلهة الأولمب زوس، وكانت زوجة ملك فلم يكن بوسعه الاقتراب منها إلا متنكراً، جاءها بهيئة بجعة هاربة من صقر، وتمكن منها فأنجبت أربعة توائم بينهم فتاة نادرة الحسن لم يعرف التاريخ أجمل منها اسمها (هيلين)، وهى التى تسببت حين كبرت بحرب طروادة، فترد عليه نازك بأنها كم كانت تتمنى أن تتسبب بهلاك مملكة، ويبدو أن المبرر الخفى لنفاذ نازك إلى بواطن المجتمع هو سحر جمالها وثقافتها معاً، خاصة التشكيلية، فهى تعلق مثلاً على اللوحة الشهيرة «هر بيكاسو» بأنه رسمها بخطوط صارمة، ضرورية ومنطقية، فى مخالبه يبدو ذلك التناحر البعيد الأغوار بين اللطف المؤقت والعداء الأصيل.. تبدو أيضاً حماقة التهور لكائن يريد السيادة، تتسرب من ملامحه طاقة مغرية، عنفوان يتحفز وصبر ينفد، مخالب تبرز بصورة مبدئية وجذرية، تحترف الرشاقة واللعب والخفة، خطوط بيكاسو المقدامة تبرز قدرة الهر على الهضم»، فنازك هنا تقوم بترميز عوالم الأنوثة والرجولة من خلال قراءتها الجمالية للوحة تشكيلية، مثل هذا الوعى الثقافى الفلسفى ينتثر كالعطر فى ثنايا الرواية كلها، ويجعل من نازك نموذجاً لسيدة موربة الحس معتقة الحسن تسهم فى ابتكار الجمال لينافس الأصل، تقول عن الموناليزا مثلاً «مازالت تعلق بابتسامتها أكثر من شيفرة ولغة وسر، فالعالم أصبح يرى أن الغموض أشد تأثيراً من الجمال الواضح الصريح، وغدت النساء يلهثن وراء افتعال ميزة الغموض، دون أن ينتبهن إلى أن الجاذبية ليست شيئاً نفبركه» بل هى هبة طبيعية مثل كل تجليات الجمال الناضج الأصيل.
نزق النساء:
ليست الرواية مجرد تعليقات ثقافية وأقوال مأثورة، على كثرة ما تتضمنه من ذلك، بل هى نسيج محكم يجسد حياة زاخرة بالمواقف والأحداث، تمضى بطبيعة الحال على نسق لا يلتزم بالترتيب الزمنى، فهى تتذكر مثلاً أنها فى مراهقتها شاركت فى أحد فنادق الإسكندرية «ويندسور» فى مسابقة المينى جيب والتنورة والشورت وملكة الأناقة وملكة جمال العيون وصاحبة أجمل بيجاما وفازت بها، كما تتذكر أنها حضرت ثورة الطلاب فى باريس عام ١٩٦٨، وأغرمت بتلك الحركة من أجل السبب الذى أشعلها، فقد بدأت التظاهرات الطلابية عندما تصدى عدد من الطلبة فى المدينة الجامعية (أنتونى) لعدد من العمال كانوا يشيّدون غرفة لمن يقوم بمراقبة الطلاب لمنع اختلاطهم بالطالبات، وقامت قوات البوليس بحماية العمال لإنجاز تلك الغرفة رغم احتجاح الطلاب من الجنسين، وشعرت نازك بالغيظ من مدام ديجول- تانت إيفون كما كان يدعوها الفرنسيون- لأنها تؤيد عودة الفتيات إلى منازلهن قبل الثامنة مساء، وتعلق قائلة «لقد هجرت الشام حتى لا أضطر للعودة إلى البيت قبل الثامنة» وعندما اعتقلت الشرطة الفيلسوف الكبير «جان بول سارتر» لمشاركته الطلاب، أمر «ديجول» بالإفراج الفورى عنه قائلاً «لا أحد يسجن فولتير» وفى عام ١٩٧٤ كانت نازك تبلغ العمر ذاته «لبريجيت باردو» التى بلغت التاسعة والثلاثين من عمرها- قررت الاعتزال قائلة: مثلت ٤٨ فيلماً، وكانت خمسة أفلام منها فقط جيدة، والباقى لا يساوى شيئاً، لذلك لن أمثل بعد الآن. وتعلق الراوية المفتونة بمختلف أشكال الفن قائلة: «ودعت السينما بعد أن أرّخ وجهها بداية عصر جديد فى طريقة تذوق جمال المرأة، ونازك قررت اعتزال باريس والعودة إلى دمشق» ومن مزايا هذا العصر أنه شهد انتصار الكاميرا، وكُتب للبشر أن تحفظ لهم ذروة شبابهم فى صور خالدة، انتهى عذاب النحات وولّى زمن الإزميل والمرمر وكان «مجيب شان» العاشق الإيرانى الذى أوقعته نازك فى غرامها عندما دعاها إلى قصره، فتجولت شبه عارية فى حدائقه فجراً لتتأمل التماثيل المرمرية المكشوفة وهى تعرف غرامه بالاصطباح بها، كان يقول: لو أن فينوس لحقت عصر الصورة لما حظى العالم بتمثالها الشهير الذى نحته فيدياس، أما نازك فتروى فضول المستمعين عندما تؤكد لهم أن جسد فينوس المنحوت كان مشكلاً وفق جسد فتاة دمشقية اسمها «أسبازيا» كانت شهيرة فى أثينا وتزوجها الحاكم، وتمثالها موجود باسمها الحقيقى فى متحف دمشق الوطنى وتبدو فيه متدثرة بعباءة شرقية، بينما ينبثق ضوء وجهها من الرخام متحدياً الزمن.
وعلى الرغم من سيل المعلومات الثقافية والفنية الذى يتدفق فى الرواية فيغالب تيارها السردى فى المواقف والأحداث فإن الرواية حافلة بحكايات نازك خانم فى زواجها الأول من الثرى الإيرانى الذى يتورط فى إشارات تحتاج المراجعة من الكاتبة، مثل ما يحكيه عن أنه شهد مصرع أمه رجماً فى إيران بتهمة الزنى، حيث لم يحدث تطبيق عقوبة الرجم هناك، لا فى عهد الشاه المعاصر للحدث ولا حتى فيما تلاه من عهود الثورة الإسلامية، وعندما تعود نازك خانم إلى دمشق لا تكف عن فتنة وجهاء القوم، حيث يقع فى غرامها كمال بك الوجيه الذى يضمر حساً دينياً قوياً لكنه يتعلق بها بولهٍ، فيرضخ لغوايتها ويتزوج منها، ويضغط عليها كى تتحجب وتتنكر لطبيعتها فتنفر منه، وعندما تعتزم هجره والسفر مع صديق جديد يذهب إليها بباقة من الورد كى تعدل عن نيتها، فإذا ما رفضت أخرج المسدس وأفرغه فى رأسها، ومن الواضح أن الكاتبة ترسم بهذه النهاية الفاجعة لنموذجها الأنثوى الفائق إشارة بليغة للمسار الذى سوف تنهجه سوريا فى جنوحها نحو الأصولية وهى تحاول التخلص من الديكتاتورية فكمال بك يلتحق بعد قتل نازك بإحدى الجماعات المتطرفة، وتقف سوريا على مشارف تحولات جذرية حادة، تخلف وراءها مصرع رمز الأنوثة والجمال والفن وهى تنشد إشراق المستقبل المأمول.
|
| |
|