ثقافة وفنون
قاسم مطر التميمي
الصحافة والكاريكاتير
ثم اكتشفت الصحافة في الكاريكاتير وسيلة مؤثرة في الحرب الدعائية وخصوصا اثناء النزاعات المسلحةالتي شهدتها بلدان القارة الاوروبية في العقود الاولى من القرن العشرين واثناء الحرب العالمية الاولى اما في الحرب العالمية الثانية فقد استخدمت صورة الانسان السافل على جميع جبهات الدعاية ليس فقط من قبل اجهزة الرايخ الثالث وانما استخدمها الحلفاء ايضا كما تدل على ذلك الصور الوثائقية بشكل يجانب الحياء والجدية في ابتكار صورة العدو: الياباني على صورة خفاش مصاص الدماء يكشر
عن انيابه المفزعة والالماني قرد يشد على ذراعه علامة الصليب المعقوف (شارة الحزب النازي) ورجل الجستابو كلب افطس الانف وفي الجانب الاخر رسومات على الشاكلة نفسها مثل: الغوريلا الاميركي الاسود الذي يهاجم تمثال فينوس في (ميلو) واتخذ الجانبان المتحاربان من الصورة العابسة المتجهمة سلاحا عجيبا في شن حرب نفسية هستيرية.
نشرت مجلة (شتيرن) الالمانية في عدد قديم لها ان هذه الحملات الدعائية التي استعر لهيبها بين المعسكرين المتحاربين بين سنتي 1939 و 1945 وتفنن صانعوها في صياغتها بمختلف الصور الماكرة والشيطانية قد عكف على جمعها وتبويبها والتعليق عليها في (البوم).
وثائقي المؤرخ الانكليزي (انطوني رودس) وخبير رسومات الكرافيك الاميركي (فكتور مارغولن) فقد تضافرت جهود هذين الرجلين على جمع 550 نموذجا من البوسترات والكاركتيرات والصور الفوتغرافية واللوحات الزيتية واغلفة المجلات السياسية والقصاصات الصحفية والطوابع البريدية والمنشورات والبطاقات البريدية التي تحمل جميعها مضمونا واحدا هو العرض النموذجي لبضاعة الحرب الزائفة.
وكان الملصق الجداري اهم تلك الاعلانات يقول رودس: (ان بوسع المرء ان يتجنب قراءة المنشور او الصحيفة اليومية وبوسعه ايضا ان يدير زر الراديو وان يبتعد عن حضور الاجتماعات السياسية وصالات العرض السينمائية ولكن المرء لابد ان يجد نفسه مرة في الشارع فيواجه في كل خطوة والتفاتة على جدران المنازل واعمدة الاعلانات ملصقا يعبر ببراعة عن هدف سياسي او مضمون ايديولوجي معين.. وهذا الملصق ثابت لا يستطيع احد نزعه.
الكاريكاتير والنازية
لقد بدأت الوزارة النازية للاعلام الشعبي والدعاية برئاسة (غوبلز) بعد سنة 1933 مباشرة بشن حملة عارمة لما يسمى بـ (الوعي الجماهيري) وقد وجد الحلفاء بعد اندلاع الحرب نماذج لوسائل الدعاية النازية حاولوا الاستقاء منها وتقليدها لذا فان التشابه بين الصور والرسومات الكاريكاتيرية يتكرر باستمرار وخصوصا في مجال الملصقات الجدارية المعبرة عن معنى ثابت كالاستعداد للتضحية والهادفة منها الى تنظيم السكان المدنيين وتوجههم هذه الملصقات تبدو متشابهة ومتبادلة في كثير من الاحيان، فالملصق الجداري (اسمع ايها العدو) مثلا نراه متبادلا يحذر الالمان والانكليز والاميركيين بلهجة صارمة.
ووضع الاميركيون على سياراتهم ملصقات كتب عليها: ( اذا رحلت وحيدا فخذ هتلر معك!) تحت صورة لهتلر يبدو فيها خجلا مطأطىء الرأس متخاذلا على احد مقاعد السيارة الخلفية ومن الجدير بالملاحظة ان الدعاية المعادية للنازية انذاك قد اظهرت هتلر وغوبلز باحجام صغيرة مضحكة تقل في حجمها عن الرسومات التي صورت بها الشياطين ولعل ذلك يعود الى المنافسة الدعائية الحادة لكلا النظامين وغياب النظرة الموضوعية السليمة والمتعقلة.
واذا كان رسامو الكاركاتير في المعسكرين المتحاربين ابان الحرب العالمية الثانية قد جندوا انفسهم وسخروا طاقاتهم لنصرة هذا المعسكر او ذاك فان رساماً نمساوياً عبقريا مات في شرخ شبابه اعنى بذلك الرسام (ايغون شيله) (1890 – 1918) قد عاش الحرب العالمية الاولى ورسم رسوما كاركتيرية وغير كاركتيرية بدأب وشجاعة مصورا مآسي تلك الحرب وفواجعها وما خلفته للانسانية من دمار.
ما بعد الحرب
وعندما تضع الحرب اوزارها وتخبو اصوات البنادق والمدافع وتبقى الاحتقانات والتوترات قائمة بين دولة واخرى يبقى الرسم الكاركتيري اداة نقد جارح وسخرية لاذعة فالاميركيون الذين مازالوا يتباهون بالحرية التي يضمنها لهم الدستور، تنشر احدى صحفهم رسما كاركتيريا لجندي اميركي واخر روسي يقفان في خندق واحد اثناء الحرب على النازية يقول الجندي الاميركي: (انا بوسعي ان اقف امام الرئيس ترومان واقول له انت رجل ظالم دون ان اخشى اية عقوبة) ويرد عليه الجندي الروسي (وانا ايضا بوسعي ان اقف امام الرفيق ستالين واقول له ان ترومان رجل ظالم!).
وتحتدم الخصومة بين الاتحاد السوفيتي السابق والصين في عقد الخمسينيات وكانت الصين يومئذ تتعرض الى استفزازات اميركية اذ كانت طائرات الاخيرة تخترق باستمرار الاجواء الصينية والصين توجه لها الانذارات المرقمة المتسلسلة حتى زاد عددها على الالف فنشرت الازفستيا ـ مستغلة تفاهة الرد الصيني على النهج العدواني الاميركي ـ نشرت رسما كاركتيريا يمثل رجلا صينيا يعتمر قبعة عليها نجمة خماسية حمراء، يشير الى زوجته التي وجدها عارية في حضن عشيقها قائلا: اوجه اليك الانذار رقم 1250!
ومادام الرسم الكاركتيري اداة تعبير نقدية لاذعة فقد استخدمته الصحافة في النقد السياسي المحلي ايضا نذكر من ذلك على سبيل المثال ما نشرته صحيفة (دي تسايت) الالمانية الاسبوعية سنة 1973 تعليقا على خطاب المستشار هلموت شميت الذي وعد الشعب بالرفاهية الاقتصادية فقد رسمت صورة كاركتيرية للمستشار على شكل حمار يتبرز ماركات المانية يتلقفها الشعب الالماني بوعاء عميق، وهذه ـ بلا شك ـ صورة مستهجنة من صور النقد الذي يفتقر الى الحياء.
الكاريكاتير في العراق
وفي اعقاب القرار الذي اصدره الزعيم الراحل عبدالكريم قاسم واعفى بموجبه عبدالسلام عارف من الوزارة وعينه سفيرا في بون نشرت احدى الصحف العراقية رسما كاركتيريا لعبد السلام عارف يحمل حقيبة ويهم بصعود الطائرة وفي وداعه فؤاد الركابي وكتبت تحت الرسم عبارة: (يالرايح البون اخذ الركابي وياك)!وفي عهد الزعيم عبدالكريم قاسم ايضا احتدم النقاش بشأن خط السكك الحديدية المتري الذي يربط بغداد بالبصرة وطوله 550 كيلو مترا ويقطعه القطار السريع في 18 ساعة والقطار العادي في 23 ساعة فنشرت احدى الصحف العراقية رسما كاركتيريا يظهر فيه سائق القطار يخاطب بدويا يمتطي بعيرا قائلا هل تريد ان تسافر معنا الى البصرة؟ ويقول البدوي: لا، انا مستعجل!وفي عقد السبعينات من القرن الماضي نشرت جريدة (دي تسايت) الالمانية مقالا مسهباً عن الاسرة وسلوك الزوجين قبل وبعد الزواج وزود المقال برسمين كاريكاتيريين كتب تحت الاول (قبل الزواج) يظهر فيه شاب وشابة جالسين على مسطبة في حديقة عامة ويلتقط الشاب شعرة ساقطة على كتف خطيبته ويقول لها: هل تسمحين يا حبيبتي ان احتفظ بهذه الشعرة لتذكرني بك في كل لحظة؟ اما الرسم الاخر الذي هو (بعد الزواج) فيظهر الزوجة بزي خادمة تقدم لزوجها اطباق الطعام والزوج يستخرج من اناء الحساء شعرة طويلة ويصرخ بزوجته قائلا: ما هذه القذارة؟!
وعلى العموم فان الرسم الكاركتيري قد استخدمته الصحافة في المجالات كلها: سلاحا مقاتلا في الحرب واسلوب تعبير فاعل في السياسة وناقدا لاذعا للظواهر الاجتماعية السلبية