ماعز بن مالك الأسلمي[1] رضي الله عنه من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، من أشهر مواقفه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم موقف اعترافه بجريمة الزنا وإقامة الحد عليه.
فقد روي أن رجلاً من الصحابة اسمه هزَّال [2] هو الذي دفع ماعزًا إلى الاعتراف بجريمة الزنا، فلما أصرَّ ماعز على الاعتراف بالجريمة رجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ماعزًا كان محصنًا، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَدَعِ الأمر يمرُّ دون أن ينصح لهزَّال -والأمة من بعده- قائلاً: «وَاللهِ! يَا هَزَّالُ لَوْ كُنْتَ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ كَانَ خَيْرًا مِمَّا صَنَعْتَ بِهِ» [3].
وما دمنا قد ذكرنا أمر ماعز فما أجدرنا أن نُعَرِّج على قصته لنرى أسلوب رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعامل مع خطأ كبير كخطأ ماعز..
يروي بريدة بن الحصيب رضي الله عنه فيقول: جاء ماعز بن مالكٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: يا رسول الله طهِّرني، فقال: «وَيْحَكَ! ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللهَ وَتُبْ إِلَيْهِ». قال: فرجع غير بعيدٍ، ثمَّ جاء؛ فقال: يا رسول الله طهِّرني،. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَيْحَكَ ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللهَ وَتُبْ إِلَيْهِ». قال: فرجع غير بعيدٍ ثمَّ جاء؛ فقال: يا رسول الله طهِّرني. فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذلك حتى إذا كانت الرابعة، قال له رسول الله: «فِيمَ أُطَهِّرُكَ؟» فقال: من الزِّنا. فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَبِهِ جُنُونٌ؟» فَأُخْبِرَ أنَّه ليس بمجنونٍ فقال: «أَشَرِبَ خَمْرًا؟» فقام رجلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ فَلَمْ يَجِدْ منه ريح خمرٍ. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَزَنَيْتَ؟» فقال: نعم» [4].
إننا نرى هنا موقفًا من أعظم مواقف العقل والحكمة والرحمة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنه موقف رجم لإنسان، وهو أمر شديد ولا شكَّ..
إن ماعزًا جاء ليعترف بالزنا ليُقام عليه الحدُّ، جاء معترفًا دون أن يُكرهه أحدٌ، لقد جاء تائبًا مقرًّا بذنبه يُريد أن يتخلَّص منه في الدنيا قبل حساب الآخرة، والحدود كفارة -كما ذكرنا قبل ذلك- وقد جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً له: طَهِّرني. وقد شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوهلة الأولى أن الرجل قد ارتكب ذنبًا عظيمًا، فلا شكَّ أن هذا كان باديًا على قسمات وجهه، وعلى نبرات صوته، لكنَّه مع ذلك لم يسأله عن ذنبه، ولو من باب الفضول، فإنه أراد أن يتكتَّم عليه لئلاَّ يُقيم عليه حدًّا، وهذا من رحمته العظيمة -صلى الله عليه وسلم، ولكن ماعزًا كان مُصِرًّا على الاعتراف، وصرَّح في المرة الرابعة بذنبه، ومع ذلك لم يتلقَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم منه الاعتراف كما يحدث في كثير من بلاد العالم ويُسَجِّله عليه، بل راجعه أكثر من مرَّة ليتراجع، وذلك رحمة به، فسأل عن عقله: هل به جنون؟ فقالوا: لا. فسأل عن شربه للخمر؛ فلعلَّه قد أذهب عقله فاعترف بما لم يفعل، وحدُّ الخمر أهون من حدِّ الزنا للمحصن، ولكن ماعزًا لم يكن شاربًا للخمر..
إنها محاولات حقيقية من رسول الله صلى الله عليه وسلم لدرء الحدِّ والتجاوز عن ماعز، بل إنه صلى الله عليه وسلم في روايات أخرى التفت إلى قوم ماعز وسألهم: «أَتَعْلَمُونَ بِعَقْلِهِ بَأْسًا تُنْكِرُونَ مِنْهُ شَيْئًا». فقالوا: ما نعلمه إِلاَّ وَفِيَّ العقل من صالحينا فيما نُرَى [5].
وفي رواية أخرى حاول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجد له مخرجًا حتى بعد اعترافه بالزنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم له: «لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ غَمَزْتَ أَوْ نَظَرْتَ [6]؟» قال: لا [7].
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في نفسه لعلَّ ماعزًا لم يَزْنِ حقيقةً، فلعلَّه تأوَّل بعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يُشير فيها أن العين إذا نظرت نظرًا مُحرَّمًا فهو نوع من الزنا، وكذلك اليد وباقي الأعضاء؛ وذلك مثـل قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ؛ فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ المَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ» [8].
ومن هنا سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأسئلة محاولاً إخراجه من أزمة إقامة الحدِّ عليه..
هل يمكن أن تصل رحمة حاكم، أو عطف مسئول، أو رقَّة قاضٍ إلى هذا الذي نتحدَّث عنه من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
ثم إن هناك بُعْدًا آخر في غاية الأهمية دَفَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا النهج، وهو أنه صلى الله عليه وسلم لا يحبُّ أن تشيع الفاحشة في المجتمع المسلم، فحديث الناس عن هذه الجريمة، وتداول القصة بين أفراد المجتمع، سيجعلهم يألفون الكلام عنها، وهي خطوة قد تقود إلى عدم استنكار الفعل لتكرار الحديث عنه، فهو يُريد للمجتمع أن يُحَافِظ على حيائه، فلا يطرق أسماعَه حديثٌ عن فاحشة، ولا تنتشر فيه قصص الخروج عن الأدب والعرف.. إنه أسلوب نبيل في السيطرة على زمام الأمور، فلا تفسد المجتمعات ولا تنهار.
وأُقِيمَ الحدُّ على ماعز كما قضت الشريعة، فرُجِمَ بالحجارة..
أو لعلَّه مناسبًا وحقيقيًّا أن نقول: أُقيم الحدُّ على ماعز كما تمنَّى هو وأراد.. إن الشريعة الإسلامية رحمة كلها، وليست الشريعة حدود صارمة لا قلب لها ولا عاطفة، ولكنها منظومة كاملة، وكما كان في هذه المنظومة إقامة الحدود للردع، كان فيها تربية الشعب على التقوى ومراقبة الله تعالى، حتى يصل الأمر إلى أن يأتي الزاني المحصن ليعترف بجريمته ويُرجَمَ، مع أنه ليس عليه شهود!
index.jpg
دروس من قصة ماعز بن مالك
وهل وقفت قصة ماعز عند هذا الحدِّ؟!
في الحقيقة لقد بقيت نقطتان مهمتان أودُّ الإشارة إليهما، ولهما علاقة وثيقة بموضوعنا..
أمَّا النقطة الأولى فهي خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة ليلاً في اليوم الذي رُجِمَ فيه ماعز..
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه يقرأ الشبهات التي من الممكن أن تُثار حول الحدث، ولا شكَّ أنه أدرك أن هناك في المدينة، أو في الدنيا بعد ذلك، مَنْ سيشفق على ماعز، ويقترح عدم إقامة الحدِّ عليه ما دام قد أعلن توبته وجاء نادمًا، ولكن أنَّى لنا أن نُدرك صدق التوبة من كذبها! إن التوبة عمل قلبي بين العبد وربه، ولو لم يُقَمِ الحدُّ عند ثبوت الجريمة بدعوى توبة الفاعل؛ لكان هذا داعيًا لكل المجرمين أن يأتوا ما شاءوا من الجريمة، ثم يعلنوا -صدقًا أو كذبًا- أنهم قد تابوا..
لقد خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة نبَّه الناس فيها إلى أن الموقف المأساوي الذي تعرَّض له ماعز عندما رُجِمَ لا يجب أن يصرف الناس أو يُلهيهم عن الجريمة التي تمت.. لقد اعتدى ماعز على حرمة امرأة، واعتدى على حرمة البيت الذي خرجت منه، واعتدى على حُرمَة زوجها أو أبيها أو أخيها، واعتدى على حرمة المجتمع.. إن هذا فاحشة مبيِّنَة لو تخيلتها تحدث مع بعض ذويك ومحارمك لطالبت فورًا برجم الفاعل، ثم إن هذه الجريمة قد تُنتج طفلاً بريئًا -وهذا قد حدث فعلاً في قصة ماعز- سيظلُّ مُعَذَّبًا طيلة عمره، وسيعلم الجميع أنه ابن زنًا، وقد يُعيَّر بذلك ليلَ نهارَ، فلا يرفع رأسًا، ولا يطلب عزًّا، مع أنه لم يرتكب شيئًا..
إن آثار جريمة الزنا وخيمة على المجتمع بكامله.. وآهٍ لو سَرَتِ الفاحشة في مجتمع من المجتمعات، وراجِعوا إحصائيات أولاد الزنا في المجتمعات الغربية الآن، بل راجعوها في المجتمعات الإسلامية التي لا تُطَبِّق شريعة رب العالمين.. إن الأمر جدُّ خطير، والقضية لا تحتمل تهاونًا أو تفريطًا..
لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية هذا الحدث الكبير ليُعلن أمام الجميع أن الحدَّ قد أُقيم رحمة بالمجتمع، ورحمة بالإنسانية، ولم يكن الغرض منه قسوة بإنسان، أو تشهيرًا بمذنب..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته: «أَوَ كُلَّمَا انْطَلَقْنَا غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللهِ تَخَلَّفَ رَجُلٌ فِي عِيَالِنَا لَهُ نَبِيبٌ[9] كَنَبِيبِ التَّيْسِ! عَلَيَّ أَنْ لَا أُوتَى بِرَجُلٍ فَعَلَ ذَلِكَ إِلَّا نَكَّلْتُ بِهِ» [10].
لقد كانت كلمات في منتهى التوفيق والروعة والحكمة!
إنه صلى الله عليه وسلم يطلب من الناس أن يَحْكُموا عواطفهم بعقولهم..
إنه يُصَوِّر موقفًا لا تطيقه نفس بشرية..
يعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صورة قاسية قد يتعرَّض لها أي فرد في المجتمع إذا سرت فيه الفاحشة..
الناس يخرجون في عمل نبيل شريف، وهو الجهاد في سبيل الله، دفاعًا عن حقوق الشعب بكامله، وحرصًا على كرامة الأمة بكاملها، فإذا بأُناس قد غدروا بهم، ولم يُقَدِّرُوا حرمتهم، فانتهزوا فرصة غيابهم، وسَطَوْا على أعزِّ ما يملكون.. سَطَوْا على شرفهم، واعتدَوْا على نسائهم..
يا للجريمة البشعة!
ثم هو يُشير بالتصريح إلى أن هذه الجريمة قد تحدث مع أي إنسان في المجتمع، حتى مع هذا الذي أخذته الشفقة على المجرم.. إنه يقول -صلى الله عليه وسلم: «تَخَلَّفَ رَجُلٌ فِي عِيَالِنَا».. إنهم عيالنا.. إنهم نساؤنا.. إن المصيبة تخصُّنا..
نحن الذين سندفع ثمن انتشار الرذيلة لا غيرنا..
ويُشير رسول الله صلى الله عليه وسلم -أيضًا- في كلمته أن الذي يفعل هذا الجرم الشنيع يفعله متشبِّهًا بالحيوانات: «لَهُ نَبِيبٌ كَنَبِيبِ التَّيْسِ». فقد تجرَّد في لحظة الفعل من كل مشاعر الإنسانية، فلا تأخذكم به رأفة..
وأخيرًا؛ فإنه يُعلن في منتهى الصرامة أن الذي سيأتي هذا الفعل الشنيع سيكون عقابه العقاب نفسه دون تهاون..
إنه ليس حقُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الشخصي حتى يُفَرِّط فيه، أو يتنازل عنه، إنه حقُّ الله -عز وجل- أولاً، وحقُّ المجتمع والشعب ثانيًا، وسوف ينفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم كائنًا في ذلك ما هو كائن..
كانت هذه هي النقطة الأولى التي أحببت أن أُشير إليها بخصوص قصة ماعز..
أما النقطة الثانية فرائعة أيضًا!!
كيف كان الوضع في المدينة المنورة بعد هذا الحدث المهم؟! وماذا كان ردُّ فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم للجدال الذي دار بين الناس بعد ذلك؟!
يقول بُريدة رضي الله عنه عنه: «فَكَانَ النَّاسُ فِيهِ فِرْقَتَيْنِ (أي في ماعز) قائلٌ يقول: لقد هلك لقد أحاطت به خطيئته. وقائلٌ يقول: ما توبةٌ أفضل من توبة ماعزٍ أنَّه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده في يده، ثمَّ قال: اقْتُلْنِي بالحجارة. قال: فَلَبِثُوا بذلك يومين أو ثلاثةً، ثمَّ جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم جلوسٌ فسلَّم، ثمَّ جلس فقال: «اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ». قال: فقالوا: غفر الله لماعز بن مالك. قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ»(11).
الله أكبر!
إننا لا نستطيع بحال من الأحوال أن نُحيط برحمته صلى الله عليه وسلم..
إنه مع كراهيته الشديدة للفعل، ومع نهيه المستمرِّ للناس عن أن يفعلوا مثلما فعل ماعز، ومع تحذيره من تكرار الأمر، مع كل ذلك لا يتردَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعلن أمام الناس جميعًا أن الله تعالى قد غفر لماعز خطيئته!
لا يتردَّد أن يطلب من الناس أن يستغفروا له!
إنه لا يحقُّ للناس أن يخوضوا في عِرضه ما دام الحدُّ قد أُقيم عليه، وما دام قد أعلن توبته أمام الجميع..
لم يخشَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفتح ذلك المجالَ للناس أن يقوموا بالاجتراء على الذنب ما دام الله يغفر؛ فالحدُّ لم يُرفَع، والعقاب ما زال موجودًا لكل مَنْ سَوَّلت له نفسه الاعتداء على حرمات الآخرين، ولكن ليس معنى هذا أن نتجاوز في إقامة الحدِّ إلى الخوض في عِرْضِ المذنب أو الاستهزاء به..
بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقف آخر يُدافع عن ماعز دفاعًا كبيرًا رحمةً له ورأفةً به..
يقول أبو هريرة رضي الله عنه: «سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الَّذي ستر الله عليه فَلَمْ تَدَعْهُ نفسه حتى رُجِمَ رَجْمَ الكلب. فسكت عنهما، ثمَّ سار ساعةً حتَّى مَرَّ بِجِيفَةِ حمارٍ شائلٍ برجله؛ فقال: «أَيْنَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ؟» فقالا: نحن ذان يا رسول الله. قال: «انْزِلَا فَكُلَا مِنْ جِيفَةِ هَذَا الحِمَارِ». فقالا: يا نبيَّ الله مَنْ يأكل من هذا؟! قال: «فَمَا نِلْتُمَا مِنْ عِرْضِ أَخِيكُمَا آنِفًا أَشَدُّ مِنْ أَكْلٍ مِنْهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! إِنَّهُ الْآنَ لَفِي أَنْهَارِ الْجَنَّةِ يَنْقَمِسُ[12] فِيهَا!»[13].