تمهيد :
ليست الهند إلا مجموعة بلدان تتعدد في لغاتها وشعوبها وأديانها، لذلك يطلق عليها جغرافياً اسم شبه القارة الهندية.
وقد امتدت إليها الفتوحات الإسلامية منذ فجر الإسلام، فكان محمد بن القاسم أول قائد مسلم تطأ راياته أطراف وحوافّ الهند وهي البلاد المسماة قديماً بالسند، والمعروفة حديثاً باسم باكستان...
إلا أن فتح الهند الفتح العام الشامل لم يتم إلا في عهد الأمير الغزنوي الشهير سبكتكين وابنه محمود (977 ـ 997) فبعد هذين السلطانين المسلمين أضحت الهند على سعتها بلداً مسلماً، إن لم يكن في جميع سكانه ففي الغالبية العظمى لأقاليمه.
واستمرت تلك السيادة الإسلامية قرابة ألف عام إلى أن كانت سنة 1877م عندما بسط الانكليز سيطرتهم ونفوذهم التام على الهند، ونصبوا ملكتهم فيكتوريا امبراطورة عليها، وأزاحوا آخر ملوك المغول المسلمين بعد مقاومة عنيدة وطويلة.
بين الهند والأندلس:
ويحلو لبعض الكتاب أن يقرن بين الهند والأندلس ( أسبانيا حالياً).
فالهند شبه جزيرة خرجت من أيدي المسلمين بعد قرابة ألف عام من السيادة الإسلامية لتعود إليها السيادة البوذية ثانية وكذلك شبه الجزيرة الايبيرية (الأندلس) تقلبت في نعيم الإسلام فترة من الزمن قرابة سبعمائة عام، ثم انقضت عليها جيوش النصرانية، فأخرجت المسلمين منها وأعادتها قسراً إلى حظيرة الصليب.
إلا أن الفارق بين هذين الموقعين (اسبانيا والهند) هو أن الإسلام في اسبانيا انتهى سياسيا ودينياً وحضاريا، بينما لا يزال في الهند قوة دينية وحضارية لا يستهان بها وإن أبعد عن سدة الحكم.
مساجد الهند، وخصوصياتها:
وينظر الباحثون في تاريخ المساجد إلى المساجد المقامة في الهند على أسس معمارية خاصة بها، تولدت ونشأت من مجموعة عوامل أثرت فيها تأثيراً كبيراً ومباشراً.
وتلك العوامل هي
أولاً: ما قصده الفاتحون من المسلمون من الغزنويين أول الأمر من إزالة المعابد البوذية والهندوكية، واستخدام أعمدتها وحجارتها وأمكنتها أحياناً في إنشاء المساجد وإشادتها وعمارتها. وثانياً: بناء المساجد على شاكلة الحصون والقلاع التي تحتمي وراء أسوارها الجماعة المسلمة الناشئة في ساعة الخطر.
وثالثاً: إقامة المساجد على شكل صروح معمارية ضخمة تبهر أنظار الهنود وتجتذبهم إلى الدين الجديد، بعد أن تعودوا أن يروا مباني أديانهم السابقة في أعلى قدر من الفخامة والضخامة.
شح في المراجع، وقلة في المعلومات:
وقد كان بودي لو تمكنت من الحصول على مراجع بالعربية تتحدث عن المساجد في الهند بإسهاب، لأقوم بتقديم نماذج منها بما تستحق من اهتمام بالتفاصيل والدقائق، كما سبق معنا في المساجد الأخرى...
إلا أن المكتبة العربية لم تسعفني بشيء كما أتمنى. مما دفعني إلى الكتابة عن مجموعة من المساجد الإسلامية في الهند في فصل واحد، مع يقيني أن كل مسجد من هذه المساجد يستحق ـ لما فيه من الابداع والجمال، وما حفل فيه من المزايا والعجائب ـ أن يفرد في فصل خاص، وأن يسطر تاريخه على انفراد!!.
كيف لا، ونحن في شبه الجزيرة الهندية أمام طراز مبتكر حقاً للمساجد يختلف كل الاختلاف عما رأيناه من طرزها المعمارية الأخرى.
لقد استطاع المهندسون الهنود المسلمون أن يجمعوا ـ على نحو يدعو إلى الاعجاب حقاً ـ بين تقاليد بلادهم الاصلية في العمارة وبين نظام المساجد في الإسلام.
وسوف نعول في معظم هذه الوقفة على ما كتبه الدكتور حسين مؤنس في كتابه (المساجد) وما نقل عنه ـ فيما نظن ـ الدكتور يوسف فرحات في كتابه (المساجد التاريخية الكبرى) مع مصادر أخرى..
1ـ مسجد قوة الإسلام في دلهي:
انشىء هذا المسجد الجامع الضخم في عهد أول سلاطين مماليك الهند قطب الدين أيبك ولذلك تنسب إليه منارته الفريدة (قطب منار).
ففي سنة 1200م بني الجزء الأول من المسجد وكان عبارة عن مساحة مسورة مستطيلة، يتجه جدار القبلة فيها إلى الكعبة. وهذا الجدار مع الجدر الثلاث الأخرى يشكل مجموعة جدران عالية ضخمة، تقويها من الداخل مجنبات يتكون كل منها من رواقين في الجانبين، وثلاثة أروقة في الخلف.
أما بيت الصلاة الأمامي فيتميز عن ذلك كله بعمقه، وبقيامه على أعمدة ضخمة...
وفي هذه المرحلة بنيت المئذنة الشهيرة المعروفة بالقطب، والتي هي أهم رموز هذا المسجد الكبير، وهي مئذنة هائلة الارتفاع، خاصة في ذلك الزمان ـ إذ يصل ارتفاعها إلى نحو 72.5 مترا، وقطر قاعدتها يزيد على (15) مترا، وهي أشبه ما تكون بنصب تذكاري رائع، وكلما ارتفعت فيها ضاق قطرها حتى يصل إلى ثلاثة أمتار فقط.
والمئذنة هذه مضلعة تبدو أضلاعها وكأنها أعمدة متلاصقة.
وللمنارة ثلاثة شرفات للأذان، تقوم كل شرفة منها على مقرنصات بالغ المهندسون في إتقانها وتنميقها. وتعتبر من أضخم المآذن في المساجد القديمة.
تجديدات وإضافات:
وقد وسعت مساحة هذا المسجد وجدد مرات عدة، فما بين عامي 1210 ـ 1220 زيد في مساحة الجامع زيادة ضخمة ضاعفت مساحة أكثر من ثلاث مرات، مع زيادة العناية به وتجميله ثم من عام 1295م وحتى عام 1313م زيدت مساحة الجامع مرة ثانية، فانتهى طوله إلى 225 مترا وعرضه إلى 150 مترا، لتصبح مساحته نحو (34) ألف متر مربع، أي ما يتسع لنحو سبعين ألف مصل دفعة واحدة.
وقد اختار السلطان الهندي المسلم علاءالدين ايلتوتميش لنفسه قبراً (وتسمى عند التفاؤل بها روضة) بجواره، وبنى عام 1236 لأجل ذلك بناء جميلاً أنيقاً خاصاً به، تربض فوقه قبة مسدسة الاضلاع، تقوم على رقبة فيها أربع قمريات. وأما المنبر في ذلك المسجد فقد كان كله من الحجر الجيري والرخام.
المصليات الصغيرة الأربع:
ثم استمرت التجديدات فيه، خاصة عام 1305هـ، عندما فتحت في جدار سور المسجد أبواب جعل كل منها في صورة مصلى صغير، تقوم فوقه قبة.
وعدد تلك المصليات المنسوبة إلى السلطان علاء الدين أربع: أثنتان في الجدار الخلفي المقابل لجدار القبلة، وواحدة في شرق الجدار الأيمن، ورابعة في الأيسر.
وقد اعتنى السلطان علاء الدين بزخرفة تلك الأبواب أو البوابات ومصلياتها. وتعرف اليوم باسم ألاي علائي دروازة.
وفي عام 1310م انشئت في جانب من الصحن الفسيح مئذنة يبدو أن منشئها أراد منافسة منار قطب إلا أنها لم تتم.
2ـ مسجد دلهي الجامع:
ويرجع تاريخ بناء هذا المسجد في العصر المغولي إلى عام 1644م (1504هـ) وقد استغرق بناؤه أربعة عشر عاماً ( إلى عام 1658م) 1069هـ، ويعرف كذلك بالمسجد الملكي لشاه جيهان باد.
وشاه جيهان هذا (1627 ـ 1658) ملك مسلم عظيم تعتبر منشآته في الهند من آيات الفن لا في تاريخ العمارة الإسلامية بل في تاريخ العمارة العالمية، مع تمتع عصره بالرفاهية والرخاء... ولذلك فهو يقارن بالوليد بن عبدالملك وعبدالرحمن الناصر وسليمان القانوني الذين ترك كل منهم بصماته واضحة في الآثار الإسلامية المعمارية.
الطابع الخاص والمساحات الواسعة:
ويعتبر مسجد دلهي الجامع أكبر مساجد الهند المحاطة بفناء على الاطلاق، ويرتفع على هضبة عالية.
ويعتبر بعد ـ مسجد فاتح بورسيكري ـ محاولة ثانية وخطوة أخرى نحو انشاء مساجد ذات طابع هندي محلي.
وهو مسجد ضخم يتكون من ثلاثة أواوين متجاورة:
الأوسط منها إيوان المدخل من صحن المسجد، وله مدخل فخم تزينه بوابة ذات عقد مدبب، ومن هذه البوابة يدخل إلى بيت الصلاة المكون من الأواوين الثلاثة: الأوسط وهو ايوان القبلة وهو أصغرها، وفيه محراب المسجد الجميل، وفوقه تقوم القبة الرئيسية للجامع وهي بصلية الشكل.
وعلى اليمين واليسار يقوم الايوانان الثاني والثالث، وهما قاعتان فخمتان تقومان على دعائم حجرية وعقود مدببة، وفوقهما قبتان بصليتان أصغر من القبة الوسطى.
وتنتشر في تلك الأواوين الثلاثة زخارف الاربسك البسيطة الجميلة المنثورة على الرخام الابيض في حوائط من الطوب الرملي الأحمر. وهو يرتفع على الجدران حتى ثلاثة اذرع... وفي بيت الصلاة هذا منبر من حجر المرمر الأبيض الناصع.
المئذنتان والصحن وقباب الواجهات:
وترتفع على جانبي واجهة المسجد مئذنتان عاليتان تبلغان نيفاً وأربعين مترا، وهما رفيعتان، ولهما أربع طوابق، وتختم كل منهما بجوسق ثم عمامة بصلية الشكل أيضا.
أما الصحن فمساحته شاسعة تحيط البوائك بها المكونة من طبقتين من كل جهة، وله مدخل رائع مرتفع عن الأرض بسلم عظيم يقوم في الجهة الشرقية المقابلة لجدار المسجد، وهذا المدخل مبنى مربع ذو ثلاثة أدوار، تزينه النوافذ الزخرفية ذات العقود المدببة.
كما أن للصحن بوابتان تتوسطان الجانبين الشمالي والجنوبي، وهما أصغر حجماً من بوابة المدخل الشرقي إلا أنهما تماثلانها...
وعلى اركان الصحن وجدار المسجد كله تقوم أربعة أبراج على هيئة جواسق في منتهى الجمال والروعة. وتتصل الأعمدة المزدوجة التي تتكون منها ومن العقود الفسطونية البواكي المفتوحة، وهي متصلة بالبوابات والابراج.
وقباب الواجهات مغطاة بالرخام الأبيض، ومزينة بخطوط من الحجر الرملي الأحمر، وترتفع على طبلة اسطوانية الشكل.
وفي وسط الصحن حوض كبير للوضوء.
أمراء الأقاليم يشاركون بحماس:
وعندما بدء العمل في مسجد دلهي الجامع، استعان شاه جهان بأمرائه المنصوبين على الأقاليم التابعة له، ليقدموا ما بأيديهم من امكانات في البناء الذي كلف في ذلك الوقت مليون روبية. فسارع كل منهم بارسال ما يستطيع من أحجار ورخام وأدوات بناء وفنيين وغير ذلك حتى استوى المسجد وافتتح للصلاة فيه أول مرة بصلاة عيد الفطر في موكب ملكي حاشد.
من لم تفته صلاة الليل فليتقدم:
وتروى قصص عجيبة عن وضع حجر أساس هذا المسجد، تدل على شدة ورع شاه جهان ومواظبة على صلاة التهجد بالليل...
فيقال: إنه عند البدء بوضع الأساس جمع حاشيته ووزراءه وقضاته والعلماء الملتفين حوله، ثم طلب ممن لم يفته قيام الليل مرة واحدة أن يتقدم لوضع حجر الأساس فأمسكوا وتوقفوا... فما كان منه إلى أن تقدم شاكراً الله على نعمته عليه أن لم تفته صلاة الليل ولا مرة.
العداء الصليبي السافر:
ومما يذكره التاريخ لمسجد دلهي الجامع أنه كان معقلا للثوار المسلمين عام 1857م ضد الانكليز، وبعد إخماد الثورة بوحشيتة فظيعة منع الانكليز المسلمين من الصلاة فيه فظل مغلقا حتى عام 1862م.
ولم يكتف الانكليز بإغلاق المسجد في حينه، بل نهبوا الأوقاف الكثيرة التابعة للمسجد، ولم يتركوا أثراً للمدرسة الملحقة به عند الباب الجنوبي، وهي التي كانت تسمى دار البقاء، وكذلك فعلوا بالمستشفى الملكي المقام عند الباب الشمالي للمسجد، وقد كان يعالج المرضى بالمجان.
3ـ مسجد تاج محل:
وأجمل ما خلف شاه جيهان من آثار معمارية ما يعتبر أحد غرائب الدنيا أو عجائب الدنيا السبع وهو مسجد تاج محل الذي بناه في الأصل عام 1630م ليكون قبراً لزوجته ممتاز محل بعد أن توفيت وهي في ريعان شبابها، فأراد أن يخلد ذكرها، فأنشأ لها خلال عامين مبنى لا تصوره الكلمات ـ كما يقول الدكتور مؤنس ـ بل الرسوم، فانظر إليه ترى عجباً من الجمال والإيمان.
أشهر المهندسين... ومسجد غريب الشكل:
وقد استعان شاه جيهان في بناء تاج محل بأشهر مهندسي عصره: مرشد الشيرازي ومير عبدالكريم وغيرهما، بينما كان وزيره آصاف خان هو المشرف على العمل ومتابعته حتى النهاية.
والجزء الرئيسي من تاج محل بيت صلاة قسم إلى اواوين ثلاثة:
الأول ويقع علىاليسار، وفيه المسجد، وقبلته تتجه إلى الكعبة المشرفة.
والثاني وهو الأوسط وفيه قبر ممتاز محل والثالث بقية بيت الصلاة ويقع إلى يمين القبر وهذا الجزء من المبنى مسجد دون جدال في مدخله ومحرابه، إلا أنه أخذ صورة المسجد الهندي، فصاغه المهندسون الهنود المسلمون على طريقتهم بروح إسلامية خالصة.
وفوق المبنى تربض قبة ضخمة من الطراز المغولي تحف بها أربع قباب صغيرة في الجوانب الأربعة...
بينما ترتفع حول المسجد وفي الفناء المحيط به أربع مآذن شامخة.
وجدران المبنى قطع من الرخام الأملس الصافي الذي لا تشوبه الرسوم، إلا بعض الزخرفة.
بينما تحف بالمسجد حدائق أُتقن تنسيقها لتغدو فتنة تضاف إلى فتنة البناء، خاصة وهي يتخللها نهر الجمنا.
وقد نقلت ممتاز محل من قبرها العادي المؤقت على ضفة نهير التابني، لتستقر في تاج محل الذي وصفه بعضهم بأنه قصيدة منحوتة من الحجر رثى بها شاه جهان زوجته، بما تعجز الوصول إليه كلمات الشعراء وقصائدهم.