رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا[([1]).
هذه هي الدعوة الثانية من دعوات نوح عليه السلام جمعت، وشملت لأهم مطالب الدنيا والآخرة، وهي طلب المغفرة العامة له، ولوالديه، ولكل المؤمنين من لدن آدم إلى قيام الساعة، الأحياء منهم والأموات .
وذلك لما علم نوحٌ u عليه السلام بوحي من اللَّه تعالى أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، توجه إلى ربه بالدعاء أن يهلكهم، ولا يترك منهم على الأرض من يسكن الديار([2])، وعلَّل ذلك بأنهم إن تُركوا فسيكونون سبب الضلال لغيرهم، ولا يلدوا إلا فجّاراً كفّاراً لا يرجى منهم، أو من ذريتهم أي خير، ولذا دعا عليهم بهذا الدعاء.
قوله: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي﴾: أي استر عليَّ ذنوبي، وتجاوز عنها: قالها هضماً لنفسه، وتعليماً لمن بعده، ﴿وَلِوَالِدَيَّ﴾: خصّهما لعظم فضلهما عليه، فكان أولى وأوجب، وأحب له في ذكرهما بدعائه قبل غيرهما.
﴿وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًاَ﴾: منزلي من المصدقين الموحدين، فإن في صحبتهم السلامة، والثبات على الدين، قال النبي صلى الله عليه وسلم ((لاَ تُصَاحِبْ إِلاَّ مُؤْمِنًا، وَلاَ يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلاَّ تَقِيٌّ))([3])، وتقييده (مؤمناً)، هذا القيد الواجب في الدعاء، أما الكافر فلاحظ له في طلب المغفرة له، قال تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾([4])، والدعاء للكافرين بالهداية، والتوفيق للإيمان والإسلام جائز؛ لذا بوّب البخاري رحمه اللَّه في صحيحه: ((باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم)) ([5])، فبعد أن ((خصّ أولاً من يتصل به نسباً وديناً؛ لأنهم أولى وأحق بدعائه، ثم عمّ المؤمنين والمؤمنات))([6])، فقال: ﴿و للْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتُ﴾: أي واستر، وتجاوز عن ذنوب كل الموحدين المصدقين بك والمصدقات .
فإن هذه الدعوة المباركة لها من الأهمية الشيء الكبير، وذلك:
أ – أن دعوة الأنبياء مستجابة، فيرجى لنا استجابة اللَّه لهم فينا.
ب – أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بشّر بالأجر العظيم بها، فقال صلى الله عليه وسلم ((مَنِ اسْتَغْفَرَ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَهٍ حَسَنَةً))([7]).
فلك أن تتصور عظم هذا الأجر؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، إلى أضعاف مضاعفة كثيرة في بلايين المؤمنين، من لدن أبي البشر إلى يوم الحشر، وهذا يدلّ على عظم فضل اللَّه على المؤمنين.
((ولذا يستحبّ مثل هذا الدعاء اقتداء بنوح عليه السلام ))([8])، وذلك أن نبينا صلى الله عليه وسلم أُمر بالاقتداء بالأنبياء قبله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّه فَبِهُدَاهُ اقْتَدِهْ﴾([9])، ونحن مأمورون بالاقتداء برسولنا صلى الله عليه وسلم ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّه وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّه كَثِيرًا﴾([10]).
ثم ختم عليه السلام الدعاء: ﴿وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا﴾: أي لا تزد الظالمين أنفسهم بالكفر إلا هلاكاً وخسراناً ودماراً، ((وقد يشمل هذا كل ظالم إلى يوم القيامة، كما شمل دعاؤه للمؤمنين والمؤمنات إلى يوم القيامة))([11]).
الفوائد:
1 – أهمية سؤال اللَّه تعالى المغفرة، كما في غالب الأدعية؛ لأنها من أعظم أسباب دخول الجنة.
2 - أن الداعي ينبغي له أن يبدأ بالسؤال: بالأهمّ، ثم الذي يليه.
3 – أهمية سؤال اللَّه تعالى المغفرة للوالدين؛ لعظم شأنهما.
4 – يحسن بالداعي أن يشرك إخوانه المؤمنين بالدعاء.
5 – أن الإكثار من هذه الدعوة ينال الداعي بها الإجابة المؤكدة لأمرين:
أ – أنها دعوة من نبي من أولي العزم.
ب – أنها دعوة بظهر الغيب .
6 – أهمية التوسل بربوبية اللَّه تعالى في الدعاء، وأنها سنة جميع الأنبياء والمرسلين.
7 – ينبغي للداعي أن يشمل ذريته في الدعاء حتى يعود النفع له،ولهم .
8 – ينبغي أن يكون جُلُّ الدعاء في أمور الآخرة.
9 – جواز الدعاء على الظلمة،ويتأكد ذلك عند مظنة ضررهم على غيرهم.
10 – يحسن للداعي أن يذكر عِلَّة دعائه.
([1]) سورة نوح، الآية: 28.
([2]) تفسير الشوكاني، 5/ 299.
([3]) أبو داود، كتاب الأدب، باب من يؤمر أن يجالس، برقم 4834، الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في صحبة المؤمن، برقم 2395، والإمام أحمد، 17/ 437، برقم 11337، وابن حبان، 2/ 314، والحاكم، 4/ 128، وصححه، والبيهقي في شعب الإيمان،
12/ 16، وفي الآداب له، برقم 235، والطبراني في الأوسط، 3/ 277، والطيالسي،
3/ 664، والديلمي في الفردوس، 2/ 59، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 3/ 95، برقم 3036.
([4]) سورة التوبة، الآية: 113.
([5]) البخاري، كتاب الجهاد، باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألّفهم، قبل الحديث رقم 2937.
([6]) تنوير الأذهان من تفسير روح البيان للبروسوي، 4/ 420.
([7]) مسند الشاميين للطبراني، 3/ 234، والمعجم الكبير له، 19/ 909، وحسّنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع، برقم 6026.
([8]) تفسير ابن كثير، 4/ 568.
([9]) سورة الأنعام، الآية: 90.
([10]) سورة الأحزاب، الآية: 21.
([11]) فتح البيان لصديق حسن خان، 7/ 221.