أوبرا القاهرة في مائة عام.
دار الأوبرا الخديوية في عام 1869م.
على الرغم من أن الفترة التي عاشتها دار الأوبرا منذ افتتاحها في عام 1869 وحتى نهاية القرن التاسع عشر لا تزيد كثيراً عن ثلاثين عاماً، إلا أن هناك الكثير من المتناقضات مالايتناسب. فالتاريخ طويل لدار الأوبرا بوجه عام. والإنتعاش والركود هما من الأمور المسلم بها في الحياة، ولكن التتابع السريع بينهما في الحالة المصرية هو ما يدعو إلى الفحص والتمحيص.
بدأت الدار كبيرة وشامخة سواء في ظروف إقامتها وافتتاحها أو في حجم نشاطها وقيمة إنجازاتها وإسهاماتها في تراث الحضارة. وسارت على هذا النحو ثمان سنوات فقط، هي التي
تمثال للخديوي إسماعيل بالقاهرة عام 1940.
عايشت خلالها انطلاقة مؤسسها وراعيها الحاكم التنويري الخديوي إسماعيل، وكانت خلالها نموذجاً مبهراً لما تكون عليها دور الأوبرا المتميزة. ولم تقتصر أهميتها في مواسمها على الكم ولكن أيضاً على الكيف، ولقد شهد عميد الأوبرا الإيطالية فيردي حين كتب في إحدى رسائله إلى المسئولين عن تقديم رائعته عايدة في إحدى المدن الإيطالية بعد عروضها في القاهرة، وذلك في سياق توجيهاته وإرشاداته لتحقيق أحسن أداء ممكن، فقال بأنه بالرغم من كل الجهود المبذولة لا يطمع في الوصول إلى عظمة الإخراج الذي تم أوبرا القاهرة.
لم تسر الأمور على هذا الوجه طيلة مسيرة الدار، ونجد في تاريخها مراحل متباينة في درجة الإنتظام في الأنشطة التقليدية بما يرجع إلى الجو العام الذي يحيط بها ويؤثر عليها بالسلب أو بالإيجاب، أو للظروف المواتية وغير المواتية التي كانت تعترض في مسيرتها.
كارت دعوة لملوك ورؤساء أوروبا لحضور حفل افتتاح قناة السويس الأوبرالي.
ولكنها في جميع الحالات، كانت تترك شيئاً للذكرى مع أشهر المشاهير، مثل بوتشيني الذي جاء بنفسه لحضور العرض الأول بمصر لأوبراه الجديدة "مدام بترفلاي" فور ظهورها في إيطاليا..وسان صانص صديق أوبرا القاهرة ومؤلف كونشيرتو البيانو المشهور المصري، والذي جلس يشاهد عرض أوبراه: شمشون ودليلة في مسرح الهمبرا بالإسكندرية. أيضاً، عازف البيانو الفرنسي المخضرم ألفريد كورتو في زيارتيه للقاهرة. وحتى آرام خاتشادوريان في حفلاته مع أوركسترا القاهرة السيمفوني بالقاهرة والإسكندرية وبيروت، مع وعد برحلة تالية مع الأوركسترا إلى أوروبا.. كما جاء روسيلليني لعرض أوبراه "الأجراس" لأول مرة على خشبة المسرح، والإضطرار إلى تأجيل الحفل بسبب وفاة الملك محمد الخامس، وكارل أورف مستمعاً إلى رائعته كارمينا بورانا بالدار- وكل ذلك إلى جانب أشهر الفرق العريقة في فنون الباليه والمسرحين الفرنسي والإنجليزي في صورهما القديمة والحديثة، والتي أوحت عروضها إلى روادنا من كبار الفنانيين، بالكثير مما زخرت به ليالي الدار وغيرها طوال الثلث الأول من القرن العشرين، وذلك في تقاليد مستمرة ومتنامية حتى يومنا هذا. ثم الشعر الذي فرض وجوده بين ليالي المسرح والموسيقى، عند تأبين شاعر النيل: حافظ إبراهيم.ثم الفنان العملاق جويلفي المشهور بدور "أومانصرو" ملك الأعداء في أوبرا عايدة، سواء في عروضها بمصر أو خارجها.
صورة توضح المظاهر الإحتفالية لأوبرا عايدة.
المرحلة الأولى
كانت المرحلة الأولى في تاريخ الدار، كلها انتعاش وتألق وشهرة، رسّخت بها الدار وجودها بين أهم دور الأوبرا في العواصم والمدن الكبرى بما يرجع إلى ظروف افتتاحها ثم مولد الرائعة "عايدة" فيه. ثم الإنطلاق في مواسم سنوية لامعة سواء في حجمها أو في مستوى الفنانين المشتركين في عروضها. تم عقد 17 حفلة للأوبرا الجديدة (24 ديسمبر) في موسم من 81 حفلة.
المرحلة الثانية: 1877-1884
تعثرت الدار في مسيرتها في أواخر حكم الخديوي إسماعيل. ولم تلبث أن توقفت أنشطتها في عام 1877. وحتى مديرها "دارنيت بك" ربما تركها قبل رحيل الخديوي بعامين. حيث تجد الفنان المصري "ليوبولد لاروز" يتولى شئونها الفنية. وأغلقت الدار أبوابها مع مجيئ توفيق وفي أذياله الإحتلال البريطاني لمصر.
المرحلة الثالثة: 1884-1914
فتحت الدار أبوابها، وبدأ لإنتعاش يعود إليها، ولكن بصورة تدريجية، إذ قامت عروضها في معظمها على حفلات الجمعيات والهيئات الخيرية، والقليل من الفرق الصغيرة الوافدة من إيطاليا، وتركيا، واليونان. وشملت الأسماء العربية في العروض أحمد أفندي أبو خليل القباني، وعبده افندي الحامولي في موسم من اثنتي عشرة حفلة، ثم فرقة بنكليان التركية، وبعدها فرقة يوسف خياط-ومن الفرق الأجنبية بوني وزوكينو للأوبريت. وفي عام 1886 نجد الشيخ سعيد الدسوقي وفرقة إسبانية، وفي العام التالي الشيخ الدسوقي بدر في موسمين متتاليين.
- قرداحي، قدمت فرقة قرداحي موسماً، امتد طوال شهر مارس تقريباً في عام 1887، بعد حفلات موسم فرقة الأوبريت بوني وزوكينو.
- سارة برنار، كانت أبرز بداية لعودة الفرق الأجنبية في إطار المواسم التقليدية الكبيرة، وكانت ذات تاريخ وعراقة في المسرح الفرنسي. وامتد موسمها لمدة شهر في عام 1888 إلى منتصف يناير.
- كاراياني، وكانت الفرقة اليونانية للأوبرا "كاراياني" أول من أعاد مواسم الأوبرا إلى الدار في سلسلة من الحفلات خلال شهري مارس وإبريل من عام 1889. ثم عادت إلى الدار حفلات الجمعيات والهيئات الخيرية تتخللها حفلات محدودة لفرق محمود رفقي وعبده الحامولي والشيخ الدسوقي بدر، ثم حفلين لفرقة الأوبرا الإيطالية "سانتيني".
سارة برناردت كملكة في أحد أعمال فيكتور هوجو والمسماة راي بلاس عام 1897م.
- اليونورا دوز، ففي عام 1890 قدمت الفرقة الإنجليزية "فانتوش توماس هولدن" عشر حفلات جاءت بعدها من قمم المسرح العالمي "إليونورا دوز" في مجموعة من الروائع، شملت مسرحيات: أنطونيو وكليوباترة، فرناندا، غادة الكاميليا، فيدورا، أوديت، زوجة كلاوديو.
- صورة لأحد مشاهد أوبرا عايدة.
المرحلة الرابعة: 1914-1919
توقفت وفود الأوبرا من أوروبا طوال فترة الحرب العالمية الأولى، واقتصر نشاط الدور على الجهود المحلية من مسرحيات وحفلات للجمعيات والهيئات والنوادي، وفرق الترفيه عن المحاربين كفرقة "عاداه ريف" للمسرحيات الغنائية-وكذا فرق الهواة للأجانب المقيمين، وكان بعضها مستقراً منتظماً في تقديم الأوبريتات الإنجليزية كجمعية القاهرة لهواة المسرح والموسيقى.تم إضافة العنصر العسكري في مجال حفلات الترفيه عن قوات الإحتلال الإنجليزي، وأضافت فرقة جورج أبيض إلى أعمالها: مكبث، الملك يلهو، الماريونت، مدام سان جين، بينما قدمت فرقة سلامة حجازي آخر مواسمها نظراً لوفاته في أكتوبر 1917، وشمل الموسم من أعماله: غرائب الأسرار، شيخ العائلات، اليتيمتان، وقدمت فرقة أولاد عكاشة بعض حفلاتها، وأقام نادي سبورتنج الجزيرة أكثر من حفلة.المرحلة الخامسة: 1919-1930
وبإنتهاء سنوات الحرب وتوابعها، بدأت بدار الأوبرا سلسلة من القمم في مواسم سنوية طويلة بدأ أولها في ديسمبر عام 1919، وقدمت فيه فرقة "دلفينو لنياني" روائع الأوبرات والأوبريت والباليه في ثمانين حفلة وثلاث حفلات سيمفونية وحفلتين لعازف الفيولينة "سيراتو" الذي سبق له تقديم حفلاته بالدار في عام 1905.ومن الأعمال الجديدة في الموسم أوبرات: لوريلاي لكتلاني، وإيزابو لماسكاني، وجوكندا ليونكيللي، وفتاة الغرب لبوتتشيني والتي كانت قد قُدمت بإيطاليا للمرة الأولى في عام 1910. وبعد انتهاء الموسم جاءت سلسلة حفلات الجمعيات والنوادي ومنها نادي اليهود الأشكناز المسرحي و المواساة وسبورتنج الجزيرة والنادي الأهلي، والمكفوفين بالزيتون.
- طلعت باشا حرب: وفي اليوم الأول من شهر مايو عام 1920 شهدت دار الأوبرا حدثاً يهم مصر كلها، وهو انعقاد مؤتمر خاص عن إنشاء بنك مصر، والذي أضاف به طلعت حرب إلى انجازاته الإقتصادية العملاقة في البلاد إقامة مسرح الأزبكية ثم ستوديو مصر، إيماناً منه بدور الفن في صنع البشر.