بقلم: د. علي عبد الرءوف
أستاذ العمارة والعمران
مآزق الهوية
بداية نعتقد أن التناول النقدي لموضوع الهوية الجماعية لأمة أو شعب ما لا يقلل من الوطنية بل هو حرص عليها ورغبة في إحياء الانتماء الحقيقي وليس المرتبط بأمجاد ماضي سحيق ليس من الفطنة أن نتغ[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]نى به ونسقط الحاضر والمستقبل من أنشودتنا. ومن ناحية أخرى ننبه ان الأمة العربية والإسلامية استهلكت جزء كبير من طاقاتها في طرح تساؤلات عن ماهية الهوية ولمن ننتمي ومن نحن وكيف نحدث حاضرنا دون أن نخسر أمجاد الماضي وحاصرتنا مصطلحات الأصالة والمعاصرة والثابت والمتحول والمحلي والعالمي والمرتبط والمنفصل حصارا خانقا اعتقد ان أهم تداعياته يتجلى في حالة الفقر الإبداعي العام . تبدو الإشكالية واضحة في معظم البلاد العربية فنحن مسلمون ولذا فالسائد ان الهوية الإسلامية هي النموذج الأكثر قبولا ومعقولية في مشروع البحث عن الذات في العالم العربي ومن الناحية المعمارية والعمرانية فلم نندهش حين أثرت تلك المرجعية تأثيرا كاسحا على التوجهات المعمارية والعمرانية في الثمانينيات وأوائل التسعينيات. وتطور الأمر بصورة أكثر درامية في العقد الأخير وخاصة مع أطروحات العولمة وتفسيراتها في السياق العربي والإسلامي والرضا بتصور العولمة بكل أبعادها كوحش يتربص بثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا التاريخ والمعمار
تتعقد الإشكالية حين نتحول إلى بلد ذو حضارة متراكمة ومركبة ومتعددة الإبعاد والأعماق مثل مصر وعاصمتها العريقة القاهرة التي تشكل تبعا لأراء أهم مؤرخين العمران مع اسطنبول وروما أكثر المدن تعقيدا في طبقاتها التاريخية. وليس هناك ضرر في الرغبة في المحافظة على عنصر التاريخ ولكن كل الضرر في سطحية المحافظة وتجاهل عامل الزمن وضرورة الاستمرارية ، وكما يطرح المفكر د.مأمون فندي فان العمارة او المعمار وسيط ينحاز عبر العصور للزمان مرة وللمكان مرة ولكن في كلا الحالتين هو أسلوب لفهمنا لأنفسنا وللعالم من حولنا
القاهرة وروما واسطنبول:عبقرية التعقيد التاريخي للمدينة
استهلاك الرمز والتقاليد
يمثل الطرح الفرعوني ملجأ أمنا في زمن تعاني فيه الدول العربية والإسلامية ومصر بينهم من هزائم متتالية فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية. فالحقبة الفرعونية تذكر بل وتخدر المصريين خدرا لطيفا يدخلهم في عوالم المجد والانتصار والسيطرة على العالم التي مضى عليها سبعة ألاف عام ولكن ما الضرر في الاستدعاء المستمر لهذا الماضي السعيد وخاصة ان ظروف الحاضر لا تقترح قرب عودته في المستقبل المنظور!!. دعنا نتأمل كيف استهلكت الفنون ورموز الحضارة الفرعونية في مشاركتنا المصرية في المهرجانات والمعارض العالمية والمنتديات الدولية فجناحنا في بورصة برلين للسياحة فرعوني التصميم وكذلك في القرية العالمية بدينة دبي وحتى في معرض السجاد العالمي في هانوفر. حاول ان تتصفح أي موقع الكتروني رسمي مصري للوزارات او المؤسسات ولا تندهش من زهرة اللوتس وأوراق البردي التي تزين المواقع . لماذا لا نستمع إلى المفكر ادوارد سعيد قائلا الحضارة الفرعونية مثل موسيقى بيتهوفن أصبحت ملك العالم كله. أنا بالقطع لا أدعو إلى التنصل منها ولكني أحث الجميع على تجاوزها تجاوزا بناء يحفظ قيمتها ولا يحولها إلى مسخ تجاري وفي الوقت ذاته فان التجاوز قد يحفزنا إلى تقديم مساهمة معاصرة في العالم المتعولم الذي نعيش خلاله اليوم
عمارة المبنى العام في مصر: العقد الأخير
الفاحص المدقق للتغيرات الحادثة في العمارة المصرية في العقد الأخير يلحظ عودة غير مفسرة إلى خيار الهوية الفرعونية كمرجعية تشكيلية وبصرية لبعض أهم المشروعات المعمارية والعمرانية وخاصة المباني العامة والمؤسسية والحكومية. وهو ما يثير جدلا حتميا ، فمرجعية المبنى الخاص مزاجية شخصية آما مرجعية المبني العام وخاصة الرسمي فهي تعبير عن توجه دولة او مؤسسة او سياسة عامة
والراصد لتحولات العمارة المصرية المعاصرة منذ بداياتها في أوائل القرن الماضي حين تولي مسئولية تدريس وممارسة العمارة الجيل الأول من المعماريين الوطنيين حتى العقد الأخير يتضح له تقلب المرجعية التشكيلية في النتاج المعماري من الحداثة إلى الإسلامية إلى مابعد الحداثة كان منطقيا وارتبط بمتغيرات محلية او إقليمية او بتوجهات فردية شخصية نابعة من تأثر المعماريين بتعليمهم وإعدادهم الغربي. ولكننا أيضا نرصد مباني مثل ضريح الزعيم الوطني سعد زغلول بطرازه الفرعوني ومحطة القطار الرئيسية بمدينة الجيزة وغيرهم تعكس رغبة قومية في استخدام المبني العام كمجال لتأكيد الهوية المصرية والوطنية التي لا تقبل المنافسة وهي الهوية الفرعونية ، وخاصة في إطار زمني كانت مصر تحاول خلاله وخاصة على المستوى السياسي تأكيد زعامتها العربية والإقليمية.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
المشهد الحالي للعودة للعمارة الفرعونية بدأ مع واحدة من اهم المسابقات المعمارية المحلية التي كان موضوعها الوصول إلى أفضل تصميم للمقر الجديد للمحكمة الدستورية العليا في موقع متميز بإطلالة رائعة على نهر النيل جنوب القاهرة
القضية الهامة لهذا المشروع والمتعلقة بموضوع هذا المقال ان المتسابق الفائز قام بتغيير جذري للطرح التصميمي الأصلي الذي اختارته لجنة التحكيم ليتحول من تركيبة معمارية تفكيكية إلى توليفة فرعونية مسرحية وسبب هذا التحول كان رغبة معلنة من رئيس المحكمة في هذا الحين (وهو رجل قانون) في ان يكون للمحكمة طراز كلاسيكي مثل المحاكم الانجليزية وحيث ان طراز الأخيرة هو غالبا كلاسيكي أوربي فمن المنطقي ان يكون طراز المصرية كلاسيكي فرعوني !! وبديهيا ان يطيع المعماري خشية ان يخسر فرصة لا تتكرر لربط اسمه بمشروع هام ومؤثر معماريا وعمرانيا في تشكيل مدينة هامة كالقاهرة.وبصرف النظر عن خلفيات المشروع وتدخل الغير مختص وتنازل المعماري عن فكره التصميمي إلا أن المشروع بعد بنائه وظهوره كتركيبة بصرية خارجة عن المعتاد والمكرر والممل ولد موجة جديدة من الحنين الى العمارة الفرعونية والرضا عنها كأكثر الإجابات منطقية وملائمة للتساؤلات عما يعبر عن الهوية المصرية.
الطرح الأصلي للمسابقة الذي خضع لتحول جذري نحو العمارة الفرعونية
أمثلة ومشاهدات
لمزيد من التحديد والتركيز دعنا نتأمل الأمثلة المعاصرة للمباني العامة والمؤسسية إلي تبنت المرجعية الفرعونية ونبدأ بمبنى مقر تنمية الصناعات الصغيرة على طريق صلاح سالم شمال القاهرة وهو مشروع له أجندة اجتماعية تنموية ويتعامل مع قطاعات المجتمع الشابة الآملة في مستقبل أفضل وتندهش من المشهد النهائي للمبنى وهو مسخ فرعوني استخدمت فيه المفردات الشكلية بسطحية . حتى على مستوى التشكيل والنسب والعلاقات والحجوم فان عدم الحساسية الصادقة للطراز المستخدم انتج علاقات معمارية وتشكيلية ضعيفة.
مبنى الصندوق الاجتماعي للتنمية معرض الصناعات الصغيرة وقشرية الطراز الفرعوني
مثال أخر يقع في منطقة أكثر حساسية وملاصقا للمقر الجديد لمتحف الحضارة ومتحف الخزف بالفسطاط يقع المقر الرئيسي لشرطة الآثار الذي صمم أيضا كطرح ساذج للعمارة الفرعونية دون أي رابط بين المشروع وبين الفراعنة سوى أنها شرطة الآثار وليست شرطة عادية !!
الهرم وابو الهول وحمام السباحة ثلاثية جديدة في سيتي ستارز-القاهرة
مشروع سيتي ستارز في مدينة نصر بشمال القاهرة مثال أخر للانتفاضة الفرعونية في العقد الاخير فالمشروع المكون من مجمع تجاري كبير وفندق ومجموعة من الأبراج المكتبية لم يكتفي فقط بالمفردات الساذجة من أعمدة وكرانيش وزخارف على الطراز الفرعوني وإنما أضاف إليها نماذج مصغرة لأبي الهول والمسلات وتماثيل بعض الملوك والإلهة الفراعنة . إلا ان طبيعة وظيفة المبنى وتوجهه نحو السائح وعدم تعبيره عن توجه وطني او مؤسسي لكونه مشروعا استثماريا خاصا بالمقام الأول وليس مقرا لهيئة او مؤسسة رسمية تابعة لكيان الدولة
المثال الأخير الذي أتعرض له هو مشروع القرية الذكية على بداية طريق القاهرة الإسكندرية الصحراوي وهو المشروع الذي يهدف الى إدخال مصر حقبة المعلوماتية ويحتوي المشروع مجموعة من المقرات لشركات الاتصالات وتقنية المعلومات ولكننا نتوقف أمام مبنى وزارة الاتصالات فالمدهش انه مع كل التطورات الحادثة في مجال المعلومات وإمكانية استخدام المبني كأداة معرفية تتعاطى مع العصر وكذلك إنتاج تجارب فراغية تحفز قدرة المستعملين والزائرين فإننا نفاجئ بتشكيل المبنى الذي انتهى أيضا الى حوار ساذج بين تشكيل فرعوني سطحي قشري مع مستويات راسية من الحوائط الزجاجية الستائرية يعلوهم جميعا كورنيش فرعوني ثم أهرام صغيرة على القمة
القرية الذكية في عصر المعلومات والعولمة ترتدي الثوب الفرعوني
تحدي العودة الى الكلاسيكية التاريخية
قارن هذه المحاولات بأطروحات أعمق للتعامل مع العمارة الكلاسيكية بحقباتها المختلفة وخاصة التي طرحها الكلاسيكيون الجدد في عمارة ما بعد الحداثة أمثال مايكل جرافز وريكاردو بوفيل والدو روسي وثلاثتهم لم يخفون سواء في كتاباتهم او أعمالهم توجهم التاريخي للحقبات الكلاسيكية ولكنهم يؤكدون بوضوح ان المرجعية الكلاسيكية يجب ان تكون مرجعية مفاهيم وليست مرجعية شكلية ساذجة ، ومن ثم فان دور المعماري المبدع هو التحليل النافذ للحقبة الكلاسيكية ثم اختيار ما يراه ملائما من مفاهيم وفلسفات للطرح والزمن المعاصر. بل دعنا نتأمل عبقرية المعماري الأمريكي الصيني الأصل أي.م.بي في استخدامه للتكوين الكلاسيكي للهرم في توسعة متحف اللوفر بمدينة باريس. اما على مستوى العمارة التجارية عالميا فان استخدام الطراز الفرعوني واوكد على كلمة الطراز وخاصة في المشروعات التجارية والفندقية يندرج تحت مفهوم استهلاك التراث والتقاليد واستخدامها في صنع بيئات تجذب السائح والمتسوق وهي توجهات استثمارية منطقية لوجودها خارج النطاق الجغرافي لبلاد الفراعنة مصر ولذا فان أمثلة مثل فندق الأقصر – لاس فيجاس بهرمه العملاق ومدخله الذي يحرسه ابو الهول الملون او مجمع وافي سنتر في دبي او منتجع سنوواي في ماليزيا هي كلها نماذج ناجحة وخاصة تجاريا وتسويقيا وقدمت نطاقات فراغية تتلاعب بعواطف السائح وحنينه الى الماضي ، أضف إلى ذلك أن تلك المشروعات وخاصة بسبب وجودها خارج مصر لا تنشغل على الإطلاق بإشكالية التعبير عن الهوية او الشخصية الوطنية. الأمر الأخر ان طبيعة ووظيفة تلك المشروعات وهي فنادق ومجمعات تجارية تتحمل الفانتازيا التشكيلية المسرحية Thematic Design.
فندق الأقصر بمدينة لاس فيجاس واستدعاء مسرحي وساذج للعمارة الفرعونية لكنه مبهر للسائح البسيط الباحث عن مغامرة ومقامرة في انحاء المدينة
أبو الهول الماليزي يحرس الهرم الأكبر فى مجمع ومنتجع سن واي - ماليزيا
ما هي الإشارات المرسلة إلينا من متابعة تأمل مشهد العمارة الفرعونية في القرن 21
اعرف إنني اقتربت من حيز شديد الحساسية واعلم وأنا مصري إنني سأتهم بالانفصال والانفلات وغيرها من التهم الفضفاضة التي تواجه العقل الناقد في عالمنا العربي ، ولكنني ادعوكم وأدعو المعماريين المصريين ومتخذي القرار وخاصة في بناء المبنى العام الرسمي إلى تأمل ثلاث إشارات رئيسية المحها تومض بشدة في مشهد عمارة الفراعنة المعاصرة :
أولا: إن انتقاء الحضارة الفرعونية كحقبة أساسية لتشكيل المرجعية البصرية للعمل المعماري المعاصر في مصر هو اختيار ظالم لبلد تتعدد وتتعقد به الحقبات التاريخية الثرية والمتداخلة.
ثانيا: من الناحية الفكرية الفلسفية فان التعمق في فهم وتفسير حضارة الفراعنة وعلاقات الملوك والآلهة بعامة الشعب قد يستنكر استخدام لغتهم التشكيلية في مباني ذات دلالة رمزية مجتمعية هامة مثل المحكمة الدستورية او مشروعات التنمية.
ثالثا: ان تعامل المعماريين مع الحقبة الفرعونية هو طرح شديد السطحية وهو تقليد مباشر وساذج لمفردات جامدة مثل الأعمدة بطرزها المختلفة دون اى محاولة للتجديد او الإبداع او حتى الفهم العميق لقيم تشكيلية تصميمية يمكن إعادة صياغتها او توليدها بصورة مبدعة لإنتاج تجارب فراغية وبصرية غير مسبوقة. الحادث الآن هو مجرد تزييف شكلي بعمق الجلد فقط لا يخترق العظام ولا يتخلل الفراغ المعماري فنحن بالقطع أمام ملصقات فرعونية وليس عمارة جديدة ملهمة من عبقرية العمارة