السؤال: ما معنى قول الله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً * مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً}؟
الإجابة: إن هذه الآيات من سورة النساء، بيَّن الله تعالى فيها بعض ما يجب على المسلمين الإيمان به من أمور القدر، فإن قدر الله سبحانه وتعالى يجب الإيمان به وهو ركن من أركان الإيمان كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره".
والقدر: أربع مراتب.
المرتبة الأولى: علم الله بجميع الأشياء إجمالاً وتفصيلاً قبل خلقه لها.
والمرتبة الثانية: كتابته لكل ما هو كائن في الصحف التي عنده فوق عرشه.
والمرتبة الثالثة: توزيع ما هو كائن على الزمن كما يحصل في ليلة القدر: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا}، وكما يكتب مع الجنين في بطن أمه أي رزقه وعمله وشقي أو سعيد.
والمرتبة الرابعة: تنفيذ ذلك على وفق علم الله السابق وهي القضاء.
فهذه أربع مراتب: اثنتان قديمتان وهما العلم والكتابة، وهما المذكورتان في قول الله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}.
والمرحلتان اللاحقتان محدثتان أي طارئتان ويجب الإيمان بالجميع.
كما أن القدر أيضاً أربعة أنواع، قدرٌ خيرٌ حلوٌ وهو ما ييسره الله لعبده المؤمن مما يوافق هواه ويعينه على الطاعة والخير، ما يرزقه من الصحة الجسمية والعقلية، وما يرزقه من المال والأهل والأولاد ونحو ذلك، وما يرزقه من العلم والاستقامة كل هذا من القدر الحلو الخير، فهو خير له لأنه يقربه من الله، وهو حلو لأنه موافق لهواه.
النوع الثاني: القدر الخير المر، وهو ما يسلطه الله على عبده المؤمن من أنواع البلاء الذي يكون تكفيراً لسيئاته ورفعاً لدرجاته، فهذا خير له قطعاً، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "عجباً لأمر المؤمن كل أمر المؤمن له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن" فهذا النوع ما يصاب به المؤمن من الأسقام والأمراض حتى الشوكة يشاكها هو من قدر الله الذي هو خيرٌ له وإن كان مراً، لأنه لا يوافق هواه.
والنوع الثالث: هو القدر الشر الحلو، وهو ما يعجله الله لأعدائه من الكفار والمنافقين مما يعينهم على معصيته، كما يعجل لهم من شؤون هذه الحياة الدنيا وما يفتح لهم من التكنولوجيا ونحو ذلك فهذا مما يعينهم على معصية الله هو شرٌ لهم لأنه يقربهم إلى النار ويبعدهم عن الله، وهو حلوٌ لأنه يوافق هواهم.
والنوع الرابع هو القدر الشر المر، وهو صناديد القدر عائذاً بالله، ما يعجله الله لأعدائه من المصائب في الحياة الدنيا مما يعجلهم على النار كتحطم الطائرات والسيارات والكوارث ونحو ذلك يموتون بها فيعجلون على النار وهو مخالف لهواهم، فهو قدر شر مر -نسأل الله السلامة والعافية-.
وهذه الأقسام الأربعة يجب الإيمان بها كما في حديث جبريل: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه وبالقدر خيره وشره" فالقدر خيره وشره كل واحد منهما قسمان حلوه ومره.
ثم بعد هذا لابد أن نعلم أن القدر يدفع القدر، أي أن القدر أنواع منوعة، فمنه ما يكتبه الله سبباً لبعض الأشياء، فالمعصية سبب للعقوبة، والاستغفار سبب لرفع العقوبة، وكذلك الصدقة سبب لرفع العقوبة، فهي تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وهكذا فهذا كله من القدر، فما كتب على الإنسان من المعصية كان من قدر الله وقد كتب عليه، وما كتب له من الطاعة والاستغفار والتوبة من قدر الله وقد كتب له، ولذلك فالقدران يتدافعان كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الدعاء يصطرع في السماء مع البلاء ولا يرد القدر إلا الدعاء"، ومثل هذا المرض والعلاج فكلاهما من قدر الله، فالمرض قدر والعلاج قدر وهما يتعاركان فأيهما كتب الله بقاءه فهو الغالب على الآخر، ومثل هذا النوع تزاحم الإرادتين كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: "وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبد المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه" فهذا من تجاذب الإرادتين عند الله سبحانه وتعالى، فلذلك قال الله تعالى في وصف هؤلاء المنافقين الذين لا يؤمنون بقدر الله خيره وشره حلوه ومره قال: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} لأنهم يُظهرون الإيمان بالله ولكنهم يكرهون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتطيَّرون به: {وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك} أي بسبب تطيرنا بك كما كان المشركون يفعلون في كل زمان، ففرعون وجنوده تطيروا بموسى ومن معه، ولذلك رد الله عليهم فقال: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ}، وكذلك كل الأنبياء يتطير بهم أصحابهم فيقولون: جئتمونا ونحن أهل اتفاق وكلمتنا واحدة فتفرقت كلمتنا واختلفت جماعتنا وحصلت بيننا البغضاء والشقاق، هم يظنون أن هذا من العيب وهذا هو الفرقان الذي يفرق الله به بين الحق والباطل، وهو الخير المحض الذي جاء به الأنبياء، فهذه تفرقة الأنبياء بين الحق والباطل كما قال الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}، فكان مجيء الأنبياء تفريقاً بين الحق والباطل فهو مصلحة، هذا التفريق هو المصلحة لأن الحق ما دام ملبوساً بالباطل لا يتمحض واحد منهما، فإذا افترقا حينئذ يتضح الحق وحده لا غبار عليه.
{قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي إن الجميع ما أصابكم من الحسنات أي مما تحبونه، وما أصابكم من السيئات أي مما تكرهونه هو من عند الله أي من قدره، ولا ينافي ذلك أن يكون ما أصابكم من السيئات فهو من عند أنفسكم أي بسبب ذنوبكم، لأن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون، فالفرق إذن بين ما كان من قدر الله من غير سبب كالحسنات أي ما يعجله للناس فهذا من فضله ورحمته، وما كان من قدر الله من السيئات أي من الأخذ الوبيل والأمراض والأعراض فذلك من قدر الله ولكنه بسبب ذنوب الناس، كما قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} فالمصائب إذن من عند الله ومن عند الناس، من عند الله أي من قدره، ومن عند الناس أي بسبب ذنوبهم، والنعم من عند الله لا من عند الناس، فهي من فضل الله فقط لا من عند الناس لأنهم لا يستجلبونها فالحسنات إنما ثوابها أخروي لا دنيوي، فلهذا قال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} أي من فضله وجوده، {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} أي بسببالذنوب والمصائب، فلذلك قال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}، والخطاب هنا ليس للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو للسامع مطلقاً، ما أصابك أيها السامع من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك، ثم جاء الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم عوداً إلى بدء فقد كان الخطاب له فيما سبق، فلذلك قال: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} أي إبانة للحجة عليهم ورداً لمزاعمهم ومنها إنكارهم للقدر