أفضلية هذا الدعاء على غيره من الأدعية :
وجه أفضلية هذا الدعاء على غيره من صيغ الاستغفار أنه بدأ فيه بالثناء على الله بعد بدايته اللهم التي هي بمعنى يا الله التي معناها أدعو الله ثم اعترف بأنه مربوب مفعول للرب الفاعل دون غيره ثم اعترف بأنه لا إله غيره معبود بحق إلا هو سبحانه فأتى بما يشعر بتوحيد الربوبية وتوحيد الألوهية ثم اعترف بالعبودية الخالصة له سبحانه وأنه مقيم على الوعد ثابت على العهد فمن الإيمان به وبكتابه وبسائر أنبيائه ورسله
ثم استدرك على نفسه أنه مقيم ذلك بحسب طوقه واستطاعته لأنه أعجز وأقل وأضعف من تأدية الربوبية حقها والقيام على العهد والوعد من غير انحراف ما ثم إنه استعاذ به سبحانه من شر كل ما صنع من التقصير في القيام بما يجب عليه من شكر الإنعام ومن ارتكاب الآثام
ثم أقر واعترف بترادف نعمه عليه وبما يصيب من الذنوب والمعاصي ثم سأله سبحانه المغفرة من ذلك كله معترفاً بأنه لا يغفر الذنوب سواه سبحانه
( اللهم ) زيدت الميم للتعظيم والتفخيم قال ابن القيم : وهذا القول صحيح لكنه يحتاج إلى تتمة وقائله لحظ معنى صحيحاً لا بد من بيانه وهو أن الميم تدل على الجمع وتقتضيه ومخرجها يقتضي ذلك وهذا مطرد على أصل من أثبت المناسبة بين اللفظ والمعنى الميم حرف شفهي يجمع الناطق به شفتيه فوضعته العرب علماً على الجمع
( أنت ربي لا إله إلا أنت ) إن الحديث النبوي في هذا الدعاء المأثور عن ينبوع الحكم ومعدن الفصاحة والبلاغة ومن أوتي جوامع الكلم واشتمل على التوحيد الذي هو المقصود من خلق العالم توحيد الربوبية ، وتوحيد الإلهية
( خلقتني ) إن خلق الإنسان عجيب تفكري كيف ميزك الله بالعقل واحمدي الله على هذه النعمة العظيمة انظري إلى من ابتلوا بالتخلف العقلي أو من فقد عقله وخرف ، تفكري في خلق عينيك وأنفك وفمك وأذنيك تفكري في الحواس الخمس وما ميز الله الجلد من قدرة على الإحساس تفكري في قلبك وكم يضخ من الدم وفي كليتيك وما تنقي وفي معدتك كيف تهضم الطعام فالحمد لله على العافية والنعم العظيمة
( وأنا عبدك ) درجة العبودية أفضل الدرجات وأرقى المنزلات ولهذا فضل الله تعالى بني آدم بها ودعاهم إليها وقد ثبت أنه سبحانه أرسل إسرافيل إلى النبيe يخيره بين أن يكون ملكاً نبياً أو عبداً نبياً فنظر إلى جبريل كالمستشير فأشار إليه أن تواضع فقال ( بل أكون عبداً نبياً ) وقد ذكر الله نبيه محمد في أشرف مقاماته في
مقام الإسراء ( سبحان الذي أسرى بعبده) ، مقام الدعوة ( وانه لما قام عبد الله يدعوه ) ، وفي مقام التحدي ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله )
( وأنا على عهدك ) أي ما عاهدتك عليه من الإيمان بك والإقرار بوحدانيتك لا أزول عنه وأنا على وعدك الذي وعدتك عليه من الاعتراف بعبوديتي لك ولربوبيتك ثم استثنى بقوله ( ما استطعت ) أي مدة دوام استطاعتي وقيل إني مستمسك بما عهدته إلىّ من أمرك ونهيك ومُبْلي العذر في الوفاء به قدر الوسع والطاقة وإن كنت لا أقدر أبلغ كنه الواجب فيه
( أعوذ بك ) ألتجي إليك وأعتصم بك
( من شر ما صنعت ) أي من شر صنعي أو من شر الذي صنعته
( أبوء لك بنعمتك علي ) باء إليه إذا رجع وانقطع ( أرجع على نفسي بالإقرار والاعتراف ) أعترف لك طوعاً بنعمتك قال في الفتح : أصل البوء اللزوم ومنه أبوء بنعمتك : أي أُلزمها نفسي وأُقر بها ولفظ النعمة – بنعمتك – وإن كان مفرداً لكنه مضاف فيعم كل نعمة من الظاهرة والباطنة من نعمة الإيمان والوجود من العدم والسمع والبصر وفي ( أبوء لك بنعمتك علي ) اعتراف وإذعان بعظم نعم المنان عليه وترادف الفضل والإحسان لديه وفي ضمن ذلك شكر المنعم سبحانه وتعالى ( ولئن شكرتم لأزيدنكم )
( وأبوء بذنبي ) :إثمي فالذنب هو الإثم والجمع ذنوب وإنما سمي ذنباً لتوقع المؤاخذة عليه لترتبها على فعله ويشمل فعل كل محظور وترك كل واجب
تنبيه : بعض ما ورد في محو السيئات قال e ( اتق الله حيث ما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها ) ظاهر الحديث كظاهر الآية (إن الحسنات يُذهبن السيئات ) وما شابه ذلك من الآثار أن السيئة تمحي من صحف الملائكة بالحسنة إذا عملت بعدها
( فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ) وحدك لا شريك لك والاعتراف بمحو الاقتراف كما قيل فإن اعتراف المر يمحو اقترافه ومنه الإقرار بالوحدانية واستجلاب المغفرة فهو كقول الله تعالى ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ) فأثنى على المستغفرين وفي ضمن ثنائه عليهم بالاستغفار تلويح بالأمر به كما قيل إن كل شئ أثنى الله على فاعله فهو آمر به وكل شئ ذم فاعله فهو ناه عنه كما في الفتح بمعناه
ولما كان العبد لا ينفك عن نعمة يشكر عليها مولاه ومصيبة يصبر عليها امتثالاً لأمر الله ورضاء بقضائهأو معصية يستغفر الله ويتوب إليه منها
فإذا أراد الله سبحانه بعبده خيراً فتح له من باب التوبة والاستغفار والذم والانكسار والذل والافتقار ودوام التضرع والابتهال والدعاء ما تكون تلك السيئة سبب رحمته حتى يقول عدو الله ياليتني تركته ولم أوقعه فيها
( أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي فاغفر لي ) العبد بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل فمشاهدة المنة توجب له المحبة والحمد والشكر لولي النعم والإحسان ومطالعة عيب النفس ويوجب الذل والانكسار والافتقار والتوبة في كل وقت وأن لا يرى نفسه إلا مفلساً
من أعظم أسباب المغفرة أن العبد إذا أذنبت ذنباً لم يرج مغفرته من غير ربه ويعلم أنه لا يغفر الذنوب ويأخذ بها غيره في الحديث القدسي الذي رواه أبي ذر رضي الله عنه مرفوعاً ) إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت ما كان منك ولا أبالي ) يعني : على كثرة ذنوبك وخطاياك فلا يتعاظمني ذلك ولا أستكثره وفي الصحيح ( إذا دعا أحدكم فليعظم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شئ ) فذنوب العباد وإن عظمت فعفو الله ومغفرته أعظم منها فهي صغيرة في جنب عفو الله ومغفرته