فتعالوا بنا نقف بسرعة في محراب هذه الآية الجليلة العظيمة الكريمة التي تبدأ بهذه الحقيقة الكبرى، وبهذه الحقيقة الأولى في هذا الوجود: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:255] الله أكبر! إن هذه الحياة البشرية كلها لتجد فاكهة القيمة مبتورة الهدف، معدومة النفع، إن لم تكن هذه الحياة مرتبطة بمنشئها الأول، وقدوسها الأجل الأعظم جل وعلا.
*** وقفة مع قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو) ***
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:255] إنها الحقيقة الأولى في هذا الوجود التي يشهد بها وعليها الكون كله، من عرشه إلى فرشه، ومن سمائه إلى أرضه، قال الله جل وعلا: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164].
إنها آيات توحد الله جل وعلا، وتنطق بوحدانية الله جل وعلا..
ففي كل شيء له آية تدل على أنه هو الواحد
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ * وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:33-40].
وقال الله عز وجل: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [النمل:60] استفهام استنكاري وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا [النمل:60].
وبعد توحيد الربوبية الذي أقر به المشرك الأول، ينتقل الحق جل وعلا من توحيد الربوبية إلى توحيد الألوهية الذي لا بد منه، بل والذي لا ينفع توحيد الربوبية بدونه: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل:60-65].
أإله مع الله، لا رب غيره ولا معبود سواه.
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:255] إنها الحقيقة الأولى في هذا الوجود التي يشهد بها وعليها الكون كله من عرشه إلى فرشه، ومن سمائه إلى أرضه، ورحم الله الإمام أحمد يوم أن أمسك البيضة بين يديه يوماً وقال: هاهنا حصنٌ حصين أملس، ليس له باب وليس له منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء، وباطنه كالذهب الإبريز، فبينما هو كذلك إذ انصدع جداره، وخرج منه حيوان سميع بصير، ذو شكل حسن وصوت مليح.
في كل شيء له آيـة تدل على أنه الواحد
يا أعرابي! يا من تربيت في مدرسة الفطرة، ما الدليل على وجود الله؟
قال: البعرة تدل على البعير، وأثر السير يدل على المسير، سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، أفلا يدل ذلك كله على اللطيف الخبير؟
ومن أروع ما قاله المفكر والفيلسوف سيسل هامان قال: إن الإنسان إذا ما اكتشف قانوناً في هذا الكون يصرخ هذا القانون قائلاً: إن الله هو خالقي، وليس الإنسان إلا مكتشفا: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53].
أيها الأحبة! إن الإقرار بأن الله جل وعلا هو الخالق، وهو الرازق، وهو المدبر، وهو المحيي، وهو المميت، يجب على من أقر لله بذلك أن يصرف العبادة بركنيها من كمال الحب والذل إليه، وبشرطيها من إخلاص واتباع إليه، أما أن نقر لله بالخلق والرزق والأمر والتصريف والتدبير، وأن نصرف العبادة لأحدٍ مع الله، أو لأحدٍ من دون الله فهذا شرك بالله جل وعلا، ومن ثم إذا وجهنا العبادة لله جل وعلا وجب علينا أن نستمد تشريعنا من الله جل وعلا وحده، فليس من حق هيئة، أو سلطة، أو مجلس نيابي، أو برلماني، أو دولة أن تشرع للبشر من دون الله جل وعلا: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [يوسف:39-40] لا لهيئة، ولا لدولة، ولا لمجلسٍ شعبي، ولا لمجلسٍ شوروي، ولا لبرلمان، ولا لأحدٍ على ظهر هذه الأرض أن يشرع للخلق من دون الله جل وعلا: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور:51].
أما المنافقون فهم الذين -والعياذ بالله- يعرضون عن حكم الله، ويعرضون عن شرع الله، ويعرضون عن منهج الله، ويعرضون عن سنة الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن أول حق لله علينا أن نوحده توحيداً شاملاً، توحيداً كاملاً، أن نقر له بتوحيد الربوبية، بل وبتوحيد الألوهية، بل وبتوحيد الأسماء والصفات، بل وبتوحيد الحاكمية، فإن من أعظم مفاهيم كلمة التوحيد أن يكون الحكم لله جل وعلا لا لأحد سواه: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:40].
فإذا أقر المسلم لله بالخلق والرزق لا يجوز له ألبتة أن يذهب حراً طليقاً ليختار لنفسه من المناهج والقوانين والأوضاع التي هي من صنع البشر، بل من صنع المهازيل من البشر من الشيوعيين، والعلمانيين، والديمقراطيين، والزنادقة، والفجرة، والفسقة الذين تتحكم فيهم الأهواء والشبهات والشهوات، وأن يترك شرع الله وشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:255] أن نقر لله بالتوحيد، وهذا هو أول حق لله علينا، كما في الصحيحين من حديث معاذ بن جبل قال: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً على حمار، فقال لي رسول الله: يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً).
أيها الحبيب! هذا هو حق الله عليك، أن تعبد الله جل وعلا، وأن توحد الله جل وعلا، وأن تصرف العبادة بركنيها وبشرطيها لله جل وعلا؛ لأن الذي خلق، والذي رزق، والذي أبدع هو الذي يستحق أن يعبد: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:1-4] لا نظير له، ولا شبيه له، ولا كفء له، ولا ند له، ولا مثيل له: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] الحي الذي لا يموت كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88].. كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:26-27].
إذا ما أمر الله إسرافيل بالنفخ في الصور نفخة الصعق، أي: نفخة الموت، ونفخ إسرافيل في الصور فمات كل حي في السماوات وفي الأرض إلا الحي جل وعلا، يقول الحق تبارك وتعالى، ينادي في هذا السكون المذهل المهيب، ويسأل ربنا جل وعلا، فلا يوجد في الكون يومئذٍ من سائل غيره ولا مجيب، يهتف الحق جل وعلا بصوته الكريم، ويقول: أنا الجبار.. أنا الجبار.. أنا الجبار.. لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ فلا يجيب عليه أحد؛ لأنه لا أحد، فيجيب على ذاته جل وعلا ويقول: الملك اليوم لله الواحد القهار.
أين الفراعنة؟ أين الظالمون؟ أين الطواغيت؟
عباد الله! إنها الحقيقة الكبرى التي تعلن علامة الزمان والمكان في أذن كل سامع، وعقل كل مفكر، أنه لا بقاء إلا للحي الذي لا يموت.
إنها الحقيقة الكبرى التي تثبت الحياة الأبدية لله جل وعلا، وتثبِت الموت لجميع خلقه، حتى ولو كان ذلك لأعظم خلقه محمد صلى الله عليه وسلم: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34].
***وقفة مع قوله: (الحي القيوم) ***
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] الذي يحتاج إليه غيره ولا يحتاج هو إلى غيره، القيوم: الذي تفتقر إليه جميع المخلوقات ولا يفتقر هو إلى خلقه بل هو الغني عن الخلق، يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:15-17]، . (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وأنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وأنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً) لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية.
***وقفة مع قوله تعالى: (لا تأخذه سنة ولا نوم) ***
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] ورد في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات، فقال: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).
****وقفة مع قوله تعالى: (له ما في السموات وما في الأرض) ****
لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [البقرة:255] فالملك ملكه، والجميع تحت قهره وتحت عبوديته.
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [البقرة:255] السماوات ملكه، والأرض ملكه، بل وما في السموات وما في الأرض ملك لله جل وعلا يقول الله تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً [مريم:93-95].
**** وقفة مع قوله تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) ****
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255] لا يجوز لمخلوق ألبتة أن يشفع يوم القيامة إلا بعد إذن الله، وبعد رضا الله جل وعلا يقول الله تعالى: إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم:26] لا بد أن نتعلق بالله، ولا بد أن نصحح عقيدتنا في الله، ولا بد أن نعلم أن الأمر كله بيد الله.
***وقفة مع قوله تعالى: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) ***
مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [البقرة:255] إنه العلم المحيط الشامل الكامل يقول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7] معهم أينما كانوا بعلمه، بقدرته، بإرادته، بإحاطته، بقهره، لا تقل: معهم بذاته، فلا تقع فيما وقع فيه أهل الحلول والاتحاد، حيث جعلوا ذات الله جل وعلا قد حل في كل شيء، وقالوا كلاماً يعف اللسان عن ذكره على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7] معهم بعلمه، وبسمعه، وببصره، ما من جبل على ظهر هذه الأرض إلا وهو يعلم ما في وعره، ولا بحرٍ على سطح هذه الأرض إلا ويدري الله ما في قعره: وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [فاطر:11].
وهاهي المرأة الأعرابية تعلمنا هذا الدرس العجيب العظيم، يوم أن ذهب إليها الأعرابي في الصحراء ليراودها عن نفسها، فقالت له لتعلمه: هلا ذهبت واطمأننت هل نام الجميع، فعاد هذا الأعرابي فرحاً بلذةٍ فانية لمعصية يظل ذلها دائماً، قال لها: أبشري فلقد نام الناس جميعاً، ولا يرانا إلا الكواكب، فنظرت إليه هذه الأعرابية قائلة: وأين مكوكبها؟ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ [المجادلة:7] يوم تتطاير الصحف، وتنشر السجلات، وينادى عليك باسمك، وتعطى هذه الصحيفة، تلك الصحيفة التي لا تغادر بليةً كتمتها، ولا مخبأة أسررتها، فكم من معصية قد كنت نسيتها ذكرك الله إياها، وكم من مصيبة قد كنت أخفيتها أظهرها الله لك وأبداها، فيا حسرة قلبك وقتها على ما فرطت في دنياك من طاعة مولاك.
أسأل الله جل وعلا أن يختم لي ولكم بخاتمة التوحيد.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
*****وقفة مع قوله تعالى: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) ****
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الأحبة! يقول الحق جل وعلا: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة:255] لا يطلع أحد على علمٍ إلا بعد أن يعلمه الله إياه: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة:255] كما قال الخضر عليه السلام لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: أنا على علم من علم الله علمنيه، وأنت على علمٍ من علم الله علمكه الله جل وعلا.
وفي النهاية فإن علم الخلق جميعاً إلى جوار علم الله كما قال الله عزوجل: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان:27] في النهاية: أرسل الله للخضر وموسى عصفوراً فنقر هذا العصفور قطرة من ماء البحر، فقال الخضر لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: إن علمي وعلمك في علم الله جل وعلا بمقدار ما أخذ هذا العصفور من ماء البحر.
وقفة مع قوله تعالى: (وسع كرسيه السماوات والأرض...)
وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255] لا يصعب عليه شيء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فهو الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض، وهو الذي يمسك السماء أن تزول، وهو الذي يمسك الأرض أن تزول: وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255].ذ