أثرت التطورات الهندسية والتقنية وكذلك تعدد مدراس العمارة والتخطيط في العالم في تصاميم الأروقة الداخلية للمساجد والتي هي المكان الأساسي الذي تقام فيه الصلاة وتؤدى مشاعرها، فبجانب اختلاف أنماط تصميم قاعات الصلاة ما بين الأروقة والصحن المغطى فإن التطورات الجديدة قد شملت جسد البناء وملحقاته والتقنيات الإنشائية المستخدمة فضلاَ عن الأنظمة الذكية التي دخلت حديثاً لتفي ببعض الأغراض وتحقق بعض المتطلبات التي فرضتها ظروف الحياة والعصر.
الأسئلة التي تدور حول القاعات الداخلية للمساجد كثيرة بعضها تتصل بالأشكال الهندسية التي يفضلها المهندسون في تصميم هذا الجزء المهم من المسجد والأسباب وراء ذلك وبعضها تدور حول الأفكار والتقنيات الحديثة المستخدمة اليوم والتي تساعد على زيادة المساحات الداخلية للمساجد وكذلك الطريقة التي يتم بها تحديد المساحات المناسبة لكل فرد داخل المسجد وبعضها تبحث في تفاصيل دقيقة في هذا الجزء المهم من المسجد ستأتي لاحقاً في هذه السلسلة من التحقيقات والتي يجيب عليها الدكتور نوبي محمد حسن أستاذ العمارة في كلية العمارة والتخطيط جامعة الملك سعود في الرياض.
أفضل الأشكال الهندسية
يؤكد الدكتور نوبي أن تفضيل المهندس أو المصمم لبعض الأشكال الهندسية عن الأخرى في تصميمه لقاعة الصلاة يأتي من الأحاديث النبوية الكثيرة والتي تحدثت عن فضل الصفوف الأولى في الصلاة، ومن هنا يجتهد المهندسون كما يقول نوبي في اختيار الأشكال الهندسية التي تحقق صفوف أولى أكثر طولاً وهي ما توفرها بعض الأشكال الهندسية دون غيرها، فالشكل المستطيل وشبه المنحرف ونصف الدائرة (المواجهة بقطرها للقبلة) يضيف نوبي كلها أشكال يمكنها تحقيق صفوف أولى أكثر طولاً، ومن هنا فهي أفضل في الاستخدام عنها في حالة الأشكال الأخرى، إضافة إلى أن طول الصفوف أهم من كثرتها، حيث يتمكن المصلون في الصفوف المتأخرة من الإنصات إلى الإمام ومتابعته كما يوصي بذلك الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
ويضيف دكتور نوبي أن هذا النهج هو الذي كان عليه مسجد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين تم إنشاؤه، حيث بلغت أبعاده 70 ذراعاً من الشمال إلى الجنوب، و60 ذراعاً من الشرق إلى الغرب، أي ذو شكل مربع يميل إلى المستطيل، وإن كانت الاستطالة في اتجاه عمودي على القبلة، فإن رواق الصلاة كان ذا شكل مستطيل يواجه القبلة بضلعه الأكبر، لأن المسجد كان يحتوى على رحبة (صحن) داخلية كبيرة.
ويمضي قائلاً: "كما أنه يمكننا أن نستنبط قاعدة أخرى في شكل حيز الصلاة، وهى استحباب جعل مكان القبلة (المحراب) في وسط جدار القبلة لما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "وَسِّطوا الإمام وسدوا الخلل".
ويضيف أيضاً أنه مما يثير الدهشة أنه وعلى الرغم من تعدد وظائف المسجد منذ بناء مسجد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن الأمر لم يغير شيئاً في برنامج المسجد المعماري، فقد ظل حيز الصلاة هو الحيز المعماري المرن الذي يمكنه أن يتلاءم في مرونة تامة مع أي وظيفة أخرى، فصالة الصلاة هي نفسها مكان تلقي العلوم، حيث يجلس الإمام ومن حوله طلاب العلم، وهى نفسها قاعة المحكمة، حيث يجلس القاضي ومن أمامه الجمهور ومن خلفه الهيئة المنفذة للأحكام.
ضرورة الزيادة في طول الصفوف الأولى
وفيما يتصل بأنماط قاعات الصلاة يقول الدكتور نوبي إنه وعلى الرغم من تعدد أنواعها حيث بعضها عبارة عن بيت للصلاة وصحن مكشوف، وبعضها الآخر أروقة حول فناء، أو حيز معماري مسقوف دون صحن أو فناء، إلا أنها جميعها قد احتوت على حيز الصلاة بشكل إن لم يكن على هيئة مستطيل يواجه القبلة بضلعه الأكبر فهو على الأقل مربع بمحاذاة القبلة.
ومن هنا يمضي نوبي قائلا: "يجب أن يراعى وضع حيز الصلاة في الموقع العام لمبنى المسجد حيث يتم التغلب بالتصميم المعماري على مشكلات الموقع، وبما يتيح تحقيق زيادة في طول الصفوف الأولى، وإن لم يتم ذلك فعلى الأقل تسوية أطوال جميع الصفوف، مع الأخذ في الحسبان ألا تكون الصفوف الأولى أقصر من الخلفية".
أما بالنسبة لإشكالية تصميم الحيز الداخلي للمسجد، فيؤكد نوبي وجود اتجاهات فكرية متباينة فيما يخص عملية التصميم المعماري، لكن وكما يقول فإن شكل المسقط الأفقي يتحدد بناءً على مدى توافقه مع وظيفة الحيز كمكان للصلاة في صفوف منتظمة باتجاه القبلة، وبالتالي فإنه يتم البحث عن الشكل المعماري للمسقط الذي يناسب هذه الوظيفة أولاً، ولا يمكن أن تنجح عملية التصميم لو أننا أوجدنا الشكل أولاً ثم بحثنا عن مدى توافقه مع نشاط الصلاة، وهذا ما يمكن أن نلاحظه، يمضي نوبي في المساجد التي تنشأ أسفل المباني حيث نجد عدم محاذاة الشكل للقبلة بأي من أضلاعه، وبالتالي عدم توافق شكل المسقط الأفقي لها لفكرة تراص المصلين في صفوف.
ومن هنا يؤكد نوبي أن عملية التصميم المعماري للحيز الداخلي للمسجد هي عملية ذات اتجاه واحد تهتم بالوظيفة أولاً، بمعنى أن التصميم يتم من الداخل إلى الخارج، أما الشكل الخارجي الذي يغلف هذه الوظيفة فيمكن أن يتم على أي صورة طالما أنه في إطار منهج وقوف المصلين بهيئة خاصة أثناء الصلاة.
راحة المصلي من أوليات المصمم
يأتي المكان الذي يقف عليه المصلي لأداء الصلاة داخل المسجد في أوليات المصمم، إذ من المهم تحديد مساحة هذا المكان بدقة حتى يتمكن الشخص من أداء صلاته براحة تامة ودون تزاحم، وفي هذه الجزئية يقول الدكتور نوبي، في العادة يحدد هذا المكان في قاعة الصلاة على أساس 1.2 × 0.6 مترمربع، وهي المساحة التي تتيح للشخص الصلاة براحة كاملة، ويضيف قائلاً: "ولأن الإسلام يهتم دائماً بالجوهر قبل المظهر، فإننا نلاحظ الاهتمام الواضح بالعمارة الداخلية عن الخارج ليس في عمارة المسجد فحسب بل حتى في المباني العامة الأخرى والسكنية، ولا يتوقف الاهتمام على التشكيل المعماري الداخلي المادي فقط بل يشمل الوظيفة التي يؤديها المبنى، بجانب التركيز على روح المبنى المستمدة من هذه الوظيفة". ويختم "إن العلاقة بين هيئة قاعة الصلاة والهيئة الخارجية علاقة تشكيلية على درجة كبيرة من الأهمية، فربما تكون هناك رسالة مقصودة من وراء التصميم حال محاولة المعماري تصميم هذه العلاقة على أساس الوضوح والترابط والتطابق في بعض الأحيان والذي قد يوحي بالعلاقة نفسها بين ظاهر المسلم وباطنه".