معتلة نفسياً تقتل طفلتها بإغراقها في "بانيو" الحمام.. مريض نفسي يذبح والدته ثاني أيام العيد.. مريض نفسي يقتل أخاه ذا التسع سنوات.. مريضة نفسيا تلقى بابنتها من الدور الثاني.. مريضة نفسية تصر علي الانتحار.. لعل هذه طائفة من بعض العناوين التي نطالعها بشكل يومي على صفحات الصحف لتضعنا في مواجهة الحقيقة المؤلمة حول واقع ملايين المرضى النفسيين. ولتضع المرض النفسي كبش فداء لكل جريمة.
فالكثير من أفراد المجتمع يعتقدون بوجود علاقة بين المرض النفسي والعنف بحيث يرى بأن أي مريض نفسي يكون عنيفا وعدوانيا نتيجة لهذا المرض، ورغم الحقيقة العلمية التي تقول بأن هناك تفاوتاً كبيراً بين الأمراض النفسية البسيط منها والشديد إلا أن هذا الاعتقاد قائم نتيجة خوف المجتمع من المريض النفسي وما يعانيه. ورغبة منا في تسليط الضوء على هذه القضية وتوضيح اللبس المتعلق بهذا الأمر نستضيف في هذا التحقيق عدداً من المختصين ليتحدثوا عن الأمراض النفسية وهل يمكن أن يكون المريض النفسي عنيفا وعدوانيا تجاه نفسه والآخرين؟!!
وصمة المرض النفسي
في البداية يقول الأخصائي النفسي في مجمع الأمل للصحة النفسية بالرياض سعيد بن سالم الأسمري: مازال المرض النفسي في الدول العربية خاصة وصمة عار يداري عليها الأهل ويتكتمون عليها حتى "لا يفتضح" أمرهم ويعلم الناس بوجود "مريض نفسي" في نطاق الأسرة، ونتيجة هذا الجهل بطبيعة المرض النفسي وإمكانية علاجه كأي مرض عضوي والشفاء منه تتدهور الحالة وقد تحدث الجرائم التي نطالع عناوينها يومياً، أو أن يصل الأمر في بعض الأحيان إلى تركه في الشوارع مما يعرضه للخطر أو حبسه في المنزل دون مساعدة للشفاء من مرضه.
ويوضح الأسمري أن المرض النفسي ابتلاء وقدر من الله له أسبابه وله علاجه تماما مثله مثل الأمراض الجسدية العضوية وكما أنه ليس عيبا أو فضيحة في هذه الأمراض العضوية والإعلان عنها ومراجعة العيادات الطبية المتخصصة في علاجها، وعيادة أو زيارة المريض مع باقات الورد وعلب الحلوى... كذلك الحال تماما بالنسبة لأمراض النفسية وعياداتها الطبية.
مغلوبون على أمرهم
وحول إذا ما كان المرضى النفسيون أشد عدوانية من غيرهم يضيف الأسمري: في الحقيقة المرضى النفسيون أكثر طيبة من غيرهم فهم مغلوبون على أمرهم وغير قادرين على إدارة حياتهم وغير معنيين بإيذاء أحد، وحتى عندما يصدر منهم عدوان فإنه يكون غير مخطط أو موجه بدقة وإنما يأتي لحظياً عفوياً عشوائياً، على عكس الجرائم التي يرتكبها أصحاء فتجدها على قدر عال من التخطيط والتنفيذ ومحاولات الإخفاء والمكر والدهاء، ولهذا نحذر دائما من جعل المريض النفسي كبش فداء في كل جريمة نعجز عن الكشف عن الفاعل فيها، لأن في هذا تضييع للحق والحقيقة واعتداء على حقوق المريض النفسي مما يجعل الناس تتوجس منه خيفة وتأخذ موقفا عدائيا منه. وحالات المرض النفسي التي يمكن أن يصدر عنها سلوك عدواني متكرر (أو متسلسل) تكاد تنحصر في بعض حالات الفصام، حيث يحمل المريض بعض المعتقدات الخاطئة والراسخة في نفس الوقت و التي ربما تدفعه إلى ارتكاب جريمة بناءً على ما يعتقده من خيانة أو محاولات اضطهاد أو غيرها.
جريمة بدون عمد
ويشير استشاري الصحة النفسية بمجمع الامل للصحة النفسية بالرياض الاستاذ حمد بن عبدالله القبلان إلى وجود علاقة بين الأمراض النفسية وجرائم العنف ولكن ليس كل مريض نفسي يرتكب جريمة عنف وإنما تعتمد على نوعية المرض وأسبابه وحدته ومدته. ويبين أن الدوافع والأسباب الحقيقية لإقدام المريض على الأعمال العنيفة أو الجرائم الخطيرة عديدة ومختلفة منها على سبيل المثال عدم إدراكه ووعيه بما يدور من حوله، لذا فهو أحيانا يرتكب الجريمة بدون عمد أو وعي منه.
مشروع مجرم
وبالنسبة لما ينشر في بعض وسائل الإعلام عن ممارسة مرضى نفسيين للعنف يقول القبلان: صحيح أن بعض المرضى النفسيين يرتكبون جرائم قتل نتيجة مشاكل نفسية كانوا يعانون منها، ولكن ليس كل مريض نفسي يرتكب جريمة لأن الأمراض الذهانية تختلف نوعياتها وأسبابها ومدتها وحدتها وعلى سبيل المثال مرض الفصام يختلف عن مرض الاكتئاب وهكذا.
ويوافقه الرأي الاخصائي الأسمري الذي يقول : يعتقد كثير من الناس أن كل مريض نفسي هو مشروع مجرم، ولهذا تتسارع الأنظار في كل جريمة بشعة أو غريبة إلى المرضى النفسيين الذين يجولون في شوارعنا بلا مأوى وبلا علاج أو رعاية، وقد يبدو هذا حلا سهلا للجميع حيث يتحمل المريض القضية، وفى نفس الوقت لا توقع عليه العقوبة بسبب إصابته بل ينقل إلى أحد المستشفيات للعلاج، وبهذا يستريح الجميع، ولكن الخطورة في ذلك هي بقاء المجرم الحقيقي حرا طليقا يمارس المزيد من العنف والترويع للناس.
نسبة أقل
وعن نسبة العنف لدى المرضى النفسيين عن غيرهم يوضح القبلان: لا يوجد أو لم اطلع على إحصائية تدلنا على أن نسبة العنف لدى المرضى النفسيين تختلف عن غيرهم ولكني أرى أن نسبة العنف لدى المرضى النفسيين أقل منها لدى الآخرين لأن المرضى النفسيين في المجتمع ككل أقل نسبة بكثير من الأسوياء، لذا فإن كان هناك مقارنة بين المرضى النفسيين والأسوياء في ارتكاب الجريمة فإن النتيجة سوف تكون أقل في صالح المرضى النفسيين ناهيك عن أن المرضى النفسيين ليسوا شرطاً أن يرتكبوا جريمة قتل أو عنف.
تهديدات على محمل الجد
وتقول الأخصائية النفسية بمجمع الامل بالرياض سهيلة المطيري: إن بعض المرضى النفسيين من الممكن أن يرتكبوا جريمة عنف نتيجة الحالة المرضية التي يمر بها المريض وطبيعة المرض الذي يعاني منه المريض، وأحيانا قد نجد عند بعض مرضى الاكتئاب الشديد حالات من الانتحار نتيجة يأس المريض من حياته وعزوفه عن التفاعل الاجتماعي مع الآخرين، وأود أن أنوه بأنه ليس بالضرورة أن كل من يصاب بهذه الأمراض قد يرتكب جريمة عنف فذلك يرجع إلى عدة عوامل لدى المريض.
وحول تهديد المريض النفسي بارتكاب جريمة عنف وهل من الممكن أخذه على محمل الجد؟ وكيفية التصرف معه تشير الى انه لا يجب على أسرة المريض النفسي أو المعالج إغفال وتجاهل تهديد المريض النفسي أيا كان نوع التهديد وفي الوقت نفسه لا يجب إعطاء الموضوع الكثير من الاهتمام الملحوظ لأن ذلك قد يدفع المريض إلى اتخاذ هذا التهديد وسيلة لتحقيق غايات معينة في نفسه ومع ذلك يجب أخذ الحيطة والحذر وإبعاد جميع ما يؤدي إلى إلحاق الضرر بالمريض أو بالمحيطين به من أفراد أسرته، وقد يكون أحد العوامل التي تدفع المريض للتهديد بالقتل هو رغبته في الحصول على أمر ممنوع عليه كمريض نفسي أو سعيه لتحقيق رغباته واستغلاله خوف الأهل من تهديداته.
المبادرة للعلاج
وقدم القبلان نصيحة لأسر المرضى النفسيين بأنه يجب عليهم المبادرة بالعلاج، وعدم الرفض بل القبول بالمريض بين أفراد الأسرة، ويجب على الأسرة التكيف والتطبع مع حالته، ومحاولة أفراد الأسرة إعادة بناء الثقة بالنفس عند المريض، وتشجيعه وحثه والأخذ بيده للاستقامة والتكيف الاجتماعي، وعرض المريض على رجل دين صالح ليبعث فيه روح الطمأنينة وأخيرا إذا كانت الحالة تستدعي دخول المريض مصحة نفسية وعلاج نفسي طبي فليكن.
توعية وتحذير من الإهمال
ودعا الأخصائي الأسمري المختصين إلى بث الوعي بأهمية العلاج النفسي، والتحذير من أن إهمال المريض النفسي وعدم إحاطته بمشاعر الحب ومعالجته... جريمة بمعنى الكلمة لأن الإهمال والتستر على المريض النفسي يضاعف المرض ويدفع المريض بالتالي للاستجابة لنوبات الهلاوس البصرية أو الإيحائية.. فتدفعه إلى العدوان حتى درجة أنواع الاعتداءات وحتى للقتل.
وحث الأسمري الجهات المسئولة أن تبذل الجهود لمعالجة المرضى النفسيين.. واقترح أن يوضع خط هاتفي ساخن للتعامل مع المرضى النفسيين وعلاجهم والوصول إليهم فهنالك معضلة بتركيبتنا الاجتماعية والثقافية تحول دون الوصول إليهم.. أتمنى الوصول إليهم وعلاجهم قبل أن يرتكبوا جريمة بحق أحبائهم ويهدموا بيت محبيهم ويدمروا حياتهم.. كما حصل ذلك ويحصل كثيرا..