يسألونك عن الأفيون، قل فيه منافع للناس.
مرت سنة 1980 الانتخابية من دون أن تدفع إدارة كارتر تكاليف مشروعها الجهادي، بل إن المملكة السعودية هي التي تحملت عبء حصتها وحصة أميركا معاً. وانتهى عام 80 بخسارة كارتر ومغادرته مع مستشاره بريجنسكي للبيت الأبيض، ومجيء رونالد ريغان وطاقمه.
وكان من الطبيعي أن تفتح للإدارة الأميركية الجديدة جميعُ الملفات السرية، ومنها عمليات «سي آي إيه» للجهاد في سبيل الله ودحر الكفر والإلحاد. وكان على الجنرال فيرنون والترز نائب مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية آنذاك، أن يشرح لريغان تفاصيل تلك العملية.
ويبدو أن الرئيس الأميركي المنتخب قد تحمس كثيراً لمسألة الجهاد ضد السوفيات. ولكن المعضلة القديمة كانت ما تزال قائمة، فالاعتمادات المالية للعملية باهظة جداً، والرياض بدأت تتذمر لكونها تحمل «الشيلة» لوحدها، ثمّ إن حملة ريغان الانتخابية نفسها رفعت شعار الضغط على الإنفاق الحكومي لتقليص الدين العام، ومن غير الوارد أن يخنث الرئيس بالوعد الذي قطعه للناخبين منذ يومه الأول في الحكم.
ولقد جاء الفرج، في شكل «نصيحة» من ألكسندر دو ميرانش رئيس جهاز مكافحة التجسس الخارجي (المخابرات الفرنسية)، للرئيس ريغان حينما اجتمع به في المكتب البيضاوي يوم 23 كانون الثاني 1981، بحضور وزير الدفاع الأميركي كاسبر واينبرغر، وروبرت ماكفرلين مساعد مستشار الأمن القومي، وفيرنون والترز الذي عينه ريغان مستشاراً له للمهمات الخاصة.
وكانت نصيحة ألكسندر دو ميرانش لريغان أنه بإمكانه أن يستفيد من شحنات المخدرات الهائلة التي يصادرها كل من مكتب التحقيقات الفيدرالي وهيئة الجمارك، لأجل تمويل حصة الولايات المتحدة في صندوق الجهاد. وإنّ تلك الشحنات المصادرة من المخدرات ربما تثمّن بمليارات الدولارات في السوق السوداء، وبدلاً من إتلافها - كما ينص القانون الأميركي - يستحسن إعادة بيعها والاستفادة بثمنها في العمليات السرية للإدارة، من دون المرور بالكونغرس وبلجانه البيروقراطية. ولعل «سي آي إيه» تستفيد من المخدرات بطريقة أخرى إذا استطاعت توصيلها إلى الجنود السوفيات ليستهلكوها! (2).
ولقد راق هذا الاقتراح الفرنسي للرئيس الأميركي، فأمر مدير «سي آي إيه» الجديد ويليام كايسي بأن يسعى إلى تنفيذ هذه «الفكرة العظيمة» في الحال. وكذلك جعل الله لأميركا مخرجاً، ورزقها المال اللازم للجهاد في سبيله، من حيث لا تحتسب!
ويبدو أنّ «السي. آي. إيه» اكتشفت لاحقاً منافع الأفيون الذي تمتاز بإنتاجه أرض أفغانستان، فهذه الزراعة لو قدّر لها أن تتطوّر إلى صناعة، فإنها ستغني «المجاهدين» عن مدّ أكفهم لأيدي المحسنين. وهكذا فقد تضاعف، في سنوات الجهاد، إنتاج المزارعين الأفغان من الخشخاش مرات عدة حتى صار مردوده المالي يقارب ستة مليارات دولار سنوياً، وأصبح الأفيون وتقطيره أهم صناعة وطنية في البلاد. ولقد احتاجت تلك الصناعة سريعاً إلى أن تردفها التجارة، ثمّ احتاجت التجارة إلى طرق مواصلات مؤمنة. وكذلك أمسك كل زعيم ميليشيا (جهادية) بتقاطع طرق، فأنشأ عليه حاجزاً يُنَظِّم مرور شحنات الأفيون، ويسمح بها مقابل رسوم يقتطعها تحت يافطة «واجب دعم الجهاد»!
ويروي الصحافي الباكستاني محمد رشيد كيف أنّ التغاضي والتواطؤ والجشع قد أوصلوا جميعاً إلى ما يشبه «الانفجار» في تجارة المخدرات. وفي عقد الثمانينيات من القرن العشرين اقترب حجم المخدرات الأفغانية المتداولة في العالم من 70% من إجمالي الإنتاج.
ولقد اضطرّ بعض ضباط مكاتب مكافحة المخدرات التابعة للأمم المتحدة في بيشاور إلى الاستقالة من وظائفهم احتجاجاً على العراقيل التي يصنعها رجال الاستخبارات المركزية الأميركية والمخابرات العسكرية الباكستانية لجهودهم! (3).
ومن غرائب التصاريف أنّ حركة طالبان، حين استولت على الحكم في أفغانستان فيما بعد، أرادت أن تحرّم زراعة المخدرات، لكنها وجدت أنّ موارد البلاد من المال قد شحّت بصورة مفجعة من بعد حملتها الأمنية ضد الخشخاش. ولمّا كان صندوق مال الجهاد السعودي/ الأميركي قد ولّى إلى غير رجعة مع انتهاء «الجهاد» في البلاد، فقد كان لازماً لأمير المؤمنين الملا محمد عمر أن يدبّر أمره.
وهكذا أصدر أمير المؤمنين فتوى من أغرب ما يكون، وكان فحواها أن «زراعة الأفيون وتجارته مباحة شرعاً، وأما زراعة الحشيش وتجارته فهي محرمة شرعاً. والداعي: أن الأفيون تقع زراعته وصناعته بهدف التصدير، فلا ينزل ضرَرُه إلّا على الكفار، وأما الحشيش فإنه يُستهلك محلياً، فينزل ضرره على المسلمين!» (4).
■ ■ ■
لم تنته حتى اليوم تلك المأساة التي حلت بأفغانستان،تحت مسميات«الجهاد» ، و«نصرة إخواننا المسلمين»، و«التصدي لمشروع الإلحاد»... ولقد وصل مجمل ما أنفقته الأطراف المتصارعة في أفغانستان، وما خسرته تلك البلاد جرّاء حروب «الجهاد» و«الحرية» و«دحر الإلحاد» إلى ما قيمته 45 مليار دولار.
وصرفت «سي آي إيه» على الجهاد الأفغاني ما يقدّرُ الخبراءُ قيمته بين 12 إلى 14 مليار دولار.
وتكفلت المملكة العربية السعودية بدفع عشرة مليارات من ذلك المبلغ، أمّا دول الخليج الأخرى ومنظماتها الخيرية، فقد أسهمت بالتبرع بالباقي. وساهمت «سي آي إيه» بنصيبها من المبلغ عبر تبييض تجارة المخدرات.
ولكن سلسلة الحروب الأهلية التي رعاها القيّمون على «الجهاد والمجاهدين» في أفغانستان، ساهمت كذلك في قتل أكثر من 3 ملايين إنسان أفغاني، أغلبهم من الأطفال والنساء والشيوخ. وتهجير ما بين 3 إلى 4 ملايين من البشر.
ودمّرت «الحرب الجهادية» بنية أفغانستان التحتية تماماً. وحرمت جيلاً كاملاً من الأفغان من كل فرص التقدم والتطور والنماء. ولم تنس بركات «حروب الجهاد» البلدان العربية الراعية، فقد عاد كثير من «المجاهدين» (الذين سموا في وسائل الإعلام بـ«الأفغان العرب») إلى بلادهم، لينشروا موجات أخرى من الجهاد في أوطانهم. وكذلك غرقت الجزائر ومصر (والسعودية أيضاً) لسنوات عديدة في صراعات داخلية دامية. ولم ينسَ الجهاد أميركا، فنالها شيء من رذاذه في أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001.