المقرنصات (العناصر الزخرفية الهندسية الإسلامية )
قيل في المقرنصات، بأنها أم الفنون كونها تجمع بين فن البناء والنحت والرسم والخط والزخرفة.
ذكر المستشرق الفرنسي كوستاف لوبون عام 1880 في كتابه (حضارة العرب) "أن العرب كانوا يكرهون ما كان يحبه الإغريق من الأوجه الملس الموحدة الزوايا والأشكال القائمة، فكانت رغبتُهم في ملء زوايا الجدر القائمة وفي وصل القباب المستديرة، منشئين الكوات الصغيرة الناتئة المثلثة الكروية المسماة بالمتدليات لتدلي بعضها فوق بعض كخلايا النحل".
ورد اسم "مقرنص" في المشرق و "مقربص" في المغرب الإسلامي أو "الدلايات" في مصر، وهو في المعجم الوسيط "مقرنس" (وقرنس السقف والبيت زينه بخوارج منه ذات تدريج متناسب فهو مقرنس) . وهي كلمة مفردة تعني الجمع وفحواها التدريج . ويعتقد أنها كلمة اقتبست وعربت بإضافة "الميم" العربية لها، بغرض تفعيل اللفظة اليونانية كارنيس Karnies ومعناها الطنف أو النتوء الخارج من البناء والذي مازال له نفس المعنى في اللغات الأوربية CorniceأوCornish اما الدارسون لعمارة المسلمين من الأجانب والمستشرقين، فقد أطلقوا عليه اسم (ستالكتيت Stalactite أو الهابطات، بما خال لهم في محاكاته لتلك الأصابع الجصية الهابطة من سقوف الكهوف، والمقرنص عنصر بنائي ذو مصادر وأصول إنشائية، يتكون المقرنص من مجموعة من الحنايا المقببة التي يتدلى أو يستقر بعضُها فوق بعض بطبقات أو صفوف طنفية، وعادة ما تكون متدرجة بشكل متناوب وتدعى تلك الصفوف "حطات" ، يبدأ أبسُطها بواحدة ثم بثلاث حنايا، تظهر في زوايا القباب المشادة فوق الحجرات المربعة، التي تسمى "المثلثات الكروية Squinches " والمثلثات الكروية هي كتل على شكل مثلثات قمتها في الأسفل وقاعدتها المقوسة والمطنفة إلى الأمام في الأعلى المراد منها تشكيل واسطة متدرجة لنقل العزوم إلى الحيطان الجانبية التي يراد منها التهيئة للشكل المثمن الناشئ فوق الشكل المربع للحجرة ليحتضن تباعا قاعدة أو "رقبة" القبة المتوافق مع هيئتها الدائرية.
وتكمن عبقرية عَمارة المسلمين وتميزها عن مدارس العَمارة الأخرى بابتكاراتها فقد استطاعت أن تنقل العنصر الإنشائي البحت، إلى عالم الفن والمنظومة الجمالية للعَمارة بدون عناء كبير، فأغناها واغتنى بها، فانسجما تباعاً مع المنهج التجريدي الذي اختطته الفنون والعناصر الجمالية المتماشية مع مفهوم الفن العقيدي الباحث عن روحانيات الأمور بعيدا عن ظاهرها الملموس، لتَكون لها الريادة الفنية التي سبقت بها باقي فنون القرن العشرين، كونها نجحت في الربط بين العناصر المعمارية والزخرفة في المباني الإسلامية، وهنا يكمن سر الإبداع في الهندسة المعمارية الإسلامية، وهذا ماتؤكده الدلالات العقلية التي يمكن أن يكون وراءَها كمُ من التطبيقات والنظم الهندسية الرياضية التي تمخضت عنها الثورة العلمية التي فجرها بها المسلمون، والتي تجسدت في مناحي الحياة العملية والفنية، يقول (المستشرق أوليك كرابر) بهذا الصدد "إن المقرنصات كأنها عملت من وحي التصميم المعماري للمبنى، ونجدها في بعض الأحيان تُلفت النظر إلى أجزاء المبنى الرئيسية"، وهنا تكمن قوة إبداع العَمارة الإسلامية ، في مدى التجانس بين الإنشاء والزخرفة.
وهكذا ابتكر المعمار المسلم المقرنصات ضمن تطويره لفنون العمارة الإسلامية، بداعي تحويل الشكل الرباعي إلى دائري عبر إعطائه البعد الثالث في تكوين القبب، حيث استخدم مهاراته وذوقه الرفيع، فأعطى للشكل صفة التدرج، لإخفاء الفاصل بين شكلي المقطعين الأفقيين، والذي تعددت استخداماته فيما بعد في كثير من مفاصل الأبنية كالشرفات والمنائر.
ونظراً لاعتماد الزخرفة الإسلامية على علم الهندسة، فلقد اعتمد المعمار على الدائرة والمربع، كأساس لإنتاج أنماط عديدة من أشكال المقرنصات المعمارية، مما أدى إلى التوسع الذوقي، مع المتابعة في الابتكار، للوصل إلى أنماط عديدة، ظهرت بوضوح في والمساجد والأبنية الدينية والقصور والمباني العامة والخاصة. المدن العربية والإسلامية
وتبرز أهمية العمل الفني كلما تزايد مجموع الوحدات المتآلف منها، ومن الجدير بالذكر بأنه تم العثور على لقى اثرية تحاكي هذا العنصر في بقايا عمائر العراق و فارس حيث أستعين بالخاصية التشكيلية في تكوينها، وفيما بعد عاد المقرنص للظهور عندما ظهرت الحاجة الى ملء الزوايا الفارغة التي تطورت لاحقاً لوهن في مادة الآجر، حيث استغني عن مادتي الخشب أو الصخور لعدم توفر المرونة اللزمة فيهما لإتمام هذا النوع من الفن المعماري. وتشير أقدم الدلائل المكتشفة في العَمارة الإسلامية اليوم إلى أن مبدأ "المثلث الكروي" قد ورد في العَمارة السورية قبل الإسلام وظهر أسفل القباب للعَمارة الباقية في البادية من العهد الأموي، ثم بوابة جامع الأقمر الفاطمي من العام 1125 م وكذلك نجد بقايا قلعة بني حماد الواقعة في وسط شرق الجزائر وتعود إلى بدايات القرن الحادي عشر الميلادية والذي ساعد في إنشائهم الصناع المهرة الذين جلبهم مناد بن زيري من أقطار المشرق الإسلامي، وفي قصر العزيزة (Laziza ) العربي الباقي في مدينة بالرم في صقلية منذ أيام (الدولة الأغلبية) في تونس من القرن الحادي عشر.
وهكذا ومما سبق يتضح أن الدلائل تشير الى إن عنصر المقرنص ينتمي إلى العَمارة الإسلامية، وأقر بذلك خبير الفنون المعمارية الاسلامية (جون د. هوك) في كتابه العَمارة الإسلامية، فكتب بأنه (لم يرد عنصر المقرنص في أي طراز من طرز العَمارة في العالم المعروفة لحد اليوم )، وقد نجد من اقدم تلك التحاليل ما ورد من المستشرق (شارل بلان) في أواسط القرن التاسع عشر الذي قال( بأنها نشأت عن ضرورة إحداث الظلال بالوسائل الناتئة ).
استعملت المتدليات في صقلية منذ القرن العاشر والحادي عشر للميلاد وحول عرب الأندلس تجوفاتها الكروية إلى مواشير قائمة ذات وجوه مقعرة، وهذا التحليل هو الأقرب إلى حقيقة المنطق المعماري والفني بالرغم من مجيئه في فترة مبكرة من تاريخ الكتابة عن عمارة المسلمين
نجد المقرنص في جل العمائر الإسلامية في المواضع التالية للبناء :
1. في الزوايا الأربع التي تقع تحت القباب في البناءات المربعة الشكل .
2. تحت شرفات المآذن ولمبرر التحضير لأطنافها الخارجة عن البدن،أو تحت أي طنف في داخل البناء أو خارجه حتى في صيغته النحتية في الخشب أو الرخام الذي تصنع منه منابر المساجد.
3- في معالجة نوع من العقود الحقيقية أو الكاذبة في البوائك التي تعلو بعض الطاقات وخاصة في عمارة المغرب والأندلس .
4- في صنع أحد أنواع تيجان الأعمدة من الحجر أو الخشب .
5- في التسقيف الداخلي لبعض الأروقة المحصورة بين البوائك والحائط الموازي كما في رواق المدرسة الشرابية أو القصر العباسي في بغداد .
6- في التسقيف الخارجي المخروطي الذي ورد متكررا في عمارة الشواهد والقبور للصالحين وصفوة القوم في العَمارة السلجوقية من القرن الحادي عشر الميلادي أو لتبطين القبب المخروطية في آسيا الصغرى وإيران .وأول مثال للقبة المقرنصة نجده في قبة أمام الدور في العراق وأشهرهم قبر زمردة خاتون في بغداد.
7- في الجزء العلوي من باطن فراغ المداخل المضلع وذلك لانتقاله إلى طاسة المدخل (نصف القبة) كما هو الحال في مدخل مدرسة السلطان حسن في القاهرة المبني عام 1356 م .
وينطبق نفس الأمر على الإيوانات المستطيلة المقببة كما في العراق وإيران ونجدها في إيوانات مسجد الجمعة في اصفهان . 8. في المعالجات الزخرفية الداخلية لبعض القباب، كما في إحدى قباب قصر الحمراء التي تنم عن تجانس في السياق المعماري مع الأشكال الزخرفية المبررة لتكسبها جمالية ورمزية. ومن أهم المقرنصات في مصر مايرد بأسماء الحلبي والشامي والبلدي ومقرنص بدلاية والمثلث، وبغياب المصطلح العربي الموحد فأننا نجد أن لكل بلد عربي أسماءَه الخاصة فمثلا نجد في المغرب قد استعمل أساطين الحرفة (المعلمين ) تسميات للأجزاء السبعة المكونة للمنظومة التركيبية للمقرنص وهي : (الشربية - تسنية مفتوحة- الكتف-الشعيرة أو السروالية الصغيرة-الدنبوق-اللوزة المستعملة في طاسة الذروة-السروالية أو البوجة-التستية المسدودة).
وهكذا نجد لتلك الأسماء أشكالاً مميزة يتم صنعَها من نحت الخشب وتركيب بعضَه على بعض ثم صب القالب السلبي الذي يتسنى لنا استعمالَه في صب المجموعة المراد تركيبها . وعادة ما يستعمل الجبس أو الحجر الصناعي الداخل في تركيبته طحين الرخام في صب وتجسيد هذا النوع من المقرنصات وخاصة في المغرب العربي وكذلك في مصر التي نجد فيها استعمال الحجر المنحوت أو اقل من ذلك الآجر والخشب، وهذا يشمل أيضا طراز البناء في الشام والحجاز والعراق واقل منه في الخليج فيستعمل الآجر المركب أو المنحوت في تجسيد هذا العنصر وكذلك المصنوع من الجص والمغطى بالقاشاني الملون أو بالمرايا كما في أضرحة (العتبات المقدسة) في بغداد والنجف وكر بلاء والذي ينم عن إبداع رفيع يأخذ بالألباب من جراء إنعكاس الضوء من مجموعة المرايا). ويمكن إجمال أهم أنواع المقرنصات المستعملة في مجمل المدارس المعمارية العربية الأربع :
- 1- المقرنص ذو المركزين الشبيه بالعقد المخمس المدبب
- 2- المقرنصات المدببة وهي مثل العقد المرسوم على الزاوية 30 درجة
- 3- المقرنصات الكبيرة ذات مركزين آو مدببة لغرض هيكلي .
- 4-.مقرنصات بطن العقد والمتكونة من حطة واحدة في محل بداية العقد.
-5- المقرنصات المركبة بين اكثر من طريقة رسم .
- 6-.المقرنص المتدلي ويقع عادة في باطن العقد
- 7 - المقرنص المخروطي
إن استعمال المواد الحديثة في البناء وخاصة الخرسانة المسلحة ألغى المعالجات الفنية للسقوف المعقودة والأقبية والقباب، وتماشيا مع هذه المواد فقد حدث انقلاب حقيقيً ألغى كثيراً من الأعراف الموروثة في طرز العَمارات التقليدية ومنها عَمارة المسلمين، ولكن يبقى الباب مفتوحا على مصراعيه في إيجاد أسلوب جديد لتوظيف هذا النوع من العناصر المعمارية كأن يكون في البناء الهيكلي المتدرج أو في التسقيف الحجمي لعناصر التغطية الفراغية بأسلوب يجعل من هذا العنصر المميز مصدر الهام لجيل المعماريين الجدد.
وأخيراً يمكن للباحث أن يقول:بأن فن المقرنصات، هو إبداع المعمار العربي، كونه استطاع أن يذيب مجمل عموم فنون العمارة في بوتقة هندسة إبداعه، لينفرد بتقديم فن مميز غاية في الإبداع، وهو تحويل الرموز الهندسية إلى أشكال تبهر الناظرين، بشكل بسيط ومتقن ومميز. وهذا ما أعطى العمارة الإسلامية طابعها الخاص الذي يعكس جوهرالفكر الإسلامي·
وبذلك أثرت أساليب الفنون المعمارية العربية الإسلامية فن العمارة العالمي، بعد اتصال الشرق الإسلامي بأوروبا في العصور الوسطى، عن طريق الحضارة الإسلامية التي قامت في الأندلس وجزيرة صقلية، والتي كان لإشعاعاتها الفضل الكبير على أوروبا في مختلف المجالات الفنية وغيرها.
مقرنص خارجي أسفل صحون المآذن
مقرنص داخلي يتم بناؤه فوق فتحات الأبواب
مقرنص مسقيم ويشكل بناؤه ستائر الش