طه حسين في مجلس زجل لبناني .
يظن العامة دائمًا أن الأدباء والشعراء تكسو وجوههم هالة من العبس المستمر، فهم أولئك المنعزلون عن زهو الحياة الدنيا، والمنكبون على كتابتهم وبحور شعرهم فقط، وهو تصور بعيد نسبة كبيرة عن الواقع، فالشعر والأدب منبع الطرافة وخفة الظل، وتبدو حياة الشعراء والأدباء مليئة على نحو مبهر بالمواقف والنوادر الطريفة، التي تتميز بسرعة بديهة الشاعر، واستدراكه للموقف الذي يواجهه.
طه حسين
وكان من أبرز المواقف الطريفة، ذلك الذي تعرض له الأديب الكبير طه حسين، حيث يذكر نجيب البعيني في كتابه «نوادر الأدباء» ما يفيد أن طه حسين، قد سمع وأعجب بفطرة شعراء العامية في بلاد الشام حيث يطلقون أزجالهم ومساجلاتهم الشعرية دون تحضير ودون معرفة سابقة بموضوع المطارحات، فرغب في حضور بعضها والاستماع لشيء منها، وأثناء إحدى زياراته إلى لبنان كانت الفرصة ملائمة لحضور إحدى حفلات فرقة «شحرور الوادي» التي كانت تعقد في بيروت واعتاد أهل بيروت على حضورها والاستمتاع بها.
وعندما دخل عميد الأدب العربي القاعة التي لا يراها إلا ببصيرته وتصوره، كان مظهره بطربوشه الأحمر الطويل ونظارته السميكة السوداء التي أصبحت العلامة الفارقة للأديب المكفوف أو قل الأديب البصير، موضوعا شيقا للزجالين، لكنهم بفطرتهم وحذقهم وكياستهم اختاروا الموضوع الأكثر قبولا وإثارة للزائر والجمهور، وانتبه أحد الحاضرين إلى دخول الكاتب مع مرافقيه وجلوسه في زاوية من القاعة، فنادي مرحبا به قائلا:ـ «أهلا وسهلا بطه حسين»،
سمع ذلك شحرور الوادي فمسك
بالمبادرة الزجلية وأنشد قائلا:
أهلا وسهلا بطه حسين.. ربي أعطاني عينين
العين الواحدة بتكفيني.. خد لك عين وخلي عين
ضجت القاعة بالاستحسان والتصفيق وانطلق الجمع من الحاضرين يرددون في نغمة واحدة: «خد لك عين وخلي عين»، لم يتوقع طه حسين ذلك وتأثر بحفاوة الاستقبال، وفي تلك الأثناء تنحنح الشاعر الثاني في الفرقة
على الحاج، ليفسحوا له مجال القول، فانطلق منشدًا:
أهلا وسهلا بطه حسين.. بيلزم لك عينين اتنين
تكرم شحرور الوادي.. منه عين ومني عين
ثم جاء دور شاعر الفرقة الثالث، أنيس روحانا، فأطلق عقيرته منشدًا:
لا تقبل يا طه حسين.. من كل واحد تأخذ عين
بقدم لك جوز عيوني.. هدية، لا قرضة ولا دين
فقال الشاعر الرابع في الفرقة،
طانيوس عبده، مستدركا ومصححا زملاءه وناصحا إياهم:
ما بيلزملو طه حسين..عين، ولا أكثر من عين
الله اختصه بعين العقل.. بيقشع فيها ع الميلين