دراسة لأقوال المفسرين في المراد بـ: ( أمرنا مترفيها ).
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى : ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ﴾ (الاسراء:16)
الحذف الحاصل في بعض الآيات قد يجعل المعنى يشتبه على البعض ، كقول اللّه تعالى :
( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ) .
ـــ فهذه الآية قد يفهم منها البعض أنّ اللّه يأمرُ بالفِسق ،والصحيح كما قال علماء التفسير أنّ في الآية حذف ، وهذا أسلوب من أساليب اللّغة العربيّة ، والمعنى : أمرنا مترفيها بطاعة الله والابتعاد عن معصيته لكنّهم فسقوا وعصوا اللّه فاستحقّوا العذاب
قرر ابن القيم أن الأمر في قول الله تعالى هنا : ﴿ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾ هو الأمر الكوني القدري، لا الأمر الشرعي ، وبيّن أن هذا التفسير أرجح من تفسير من فسّر الآية بقوله : "أمرنا مترفيها بالطاعة ، ففسقوا" من وجوه كثيرة .
قال رحمه الله وهو يذكر الأمثلة من القرآن على الأمر الكوني :
( وقوله: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا ﴾ ، فهذا أمر تقدير كوني لا أمر ديني شرعي ؛ فإن الله لا يأمر بالفحشاء . والمعنى : قضينا ذلك وقدرناه .
وقالت طائفة : بل هو أمر ديني . والمعنى : أمرناهم بالطاعة فخالفونا وفسقوا .
والقول الأول أرجح لوجوه :
أحدها : أن الإضمار على خلاف الأصل ؛ فلا يصار إليه إلا إذا لم يمكن تصحيح الكلام بدونه .
الثاني :
أن ذلك يستلزم إضمارين ، أحدهما : أمرناهم بطاعتنا ، والثاني : فخالفونا أو عصونا ، ونحو ذلك .
الثالث :
أن ما بعد الفاء في مثل هذا التركيب هو المأمور به نفسه ، كقولك : أمرته ففعل ، وأمرته فقام ، وأمرته فركب ؛ لا يفهم المخاطب غير هذا .
الرابع :
أنه سبحانه جعل سبب هلاك القرية أمره المذكور . ومن المعلوم أن أمره بالطاعة والتوحيد لا يصلح أن يكون سبب الهلاك ، بل هو سبب للنجاة والفوز.
فإن قيل : أمره بالطاعة مع الفسق هو سبب الهلاك .
قيل : هذا يبطل بالوجه الخامس : وهو أن هذا الأمر لا يختص بالمترفين ، بل هو سبحانه يأمر بطاعته واتباع رسله المترفين وغيرهم ؛ فلا يصح تخصيص الأمر بالطاعة للمترفين .
يوضحه الوجه السادس : أن الأمر لو كان بالطاعة لكان هو نفس إرسال رسله إليهم . ومعلوم أنه لا يحسن أن يقال : أرسلنا رسلنا إلى مترفيها ففسقوا فيها ؛ فإن الإرسال لو كان إلى المترفين لقال من عداهم : نحن لم يرسل إلينا .
السابع :
أن إرادة الله سبحانه لإهلاك القرية إنما يكون بعد إرسال الرسل إليهم وتكذيبهم ، وإلا فقبل ذلك هو لا يريد إهلاكهم ، لأنهم معذورون بغفلتهم وعدم بلوغ الرسالة إليهم ، قال تعالى : ﴿ ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ﴾ (الأنعام:131) ، فإذا أرسل الرسل فكذبوهم أراد إهلاكها ، فأمر رؤساءها ومترفيها أمراً كونياً قدرياً – لا شرعياً دينياً - بالفسق في القرية ، فاجتمع على أهلها تكذيبُهم وفسقُ رؤسائهم ؛ فحينئذ جاءها أمر الله ، وحق عليها قوله بالإهلاك. )