هل بدأ عصر ناطحات السحاب الخشبية.
لم يعد بناء ناطحات السحاب أمراً جديداً علينا، فالأمر بات يعتمد عل تكلفة المشروع أكثر من أي شيء آخر، لذلك لن يكون ارتفاع المبنى وحده كافٍ للتميز في عالم العمارة، فالجيل القادم من المباني المستقبلية سيكون موجه أكثر نحو صداقة البيئة واستخدام الطاقات البديلة وتوفير الطاقة، إضافة إلى اللمسة الجمالية للتصميم الخارجي للمبنى، أما بالنسبة لمن ينفذ المشروع فإن التكلفة والوقت هما أهم العوامل في المشاريع الإنشائية، وهنا تظهر فكرة ناطحات سحاب خشبية كفيلة بتوفير كل ذلك.
بدأت فكرة ناطحات السحاب عملياً علي يد المهندس “وليام لي بارون جيني” William Le Baron Jenney في شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1884، حيث شرع في بناء أول ناطحة سحاب في العالم وكانت مدعمة بإطار من الحديد لتوزيع الحمل الثقيل على المبنى، ولكنّ مفتشو المنطقة أوقفوا البناء بعد أن شككوا في صحة طريقته. ومع هذا لم تتوقف فكرة المباني الشاهقة التي ازدهرت وشاعت في العالم.
والآن يأتي المهندس المعماري مايكل جرين Michael Green، وهو معماري مغرم بالأخشاب منذ صغره، ويعمل في إنشاء المباني بمختلف المواد، ولكنه يحب المباني الخشبية أكثر من غيرها، كما لاحظ أن من يدخل تلك المباني يتحسس الأعمدة الخشبية التي يقوم عليها المبني بإعجاب، بينما لا يحدث هذا مع أعمدة الإسمنت والصلب.
طرح مايكل فكرة ناطحات السحاب الخشبية أمام الجمهور في مؤتمر TED العالمي، وقد استلهم فكرته من ارتفاع الأشجار نفسها؛ فهو يعيش قريباً من غابة تنمو بارتفاع 33 طابقاً، ويوجد غيرها ما يصل إلى ارتفاع 40 طابقاً، لذلك فهو يرى أنه لا بدّ أن تجتاز المباني الخشبية حدودها العادية، إلا أن هناك العديد من العقبات في طريقه وعليه أن يتخطاها.
تقوم فكرة هذا الصرح الخشبي الجديد على نوع من الأخشاب يسمى بالأخشاب المتكتلة، وهو نوع من المواد المصنعة بوساطة قطع صغيرة من الأخشاب يتم ضغطها بقوة عالية في وجود حرارة ومادة لاصقة، فينتج عن ذلك ألواح خشبية صلبة جداً بأطوال وكثافات مختلفة حسب الطلب، وهي الآن مستخدمة حول العالم في صناعة الأثاث المنزلي. ولكن حان الآن وقت مرحلة جديد من الاستخدام.
يعمل هذا المهندس المغرم بالأخشاب على بناء برج بارتفاع 30 طابقاً من ألواح خشبية ضخمة بطول 20 متراً وعرض 2,5 أمتار، وقد صممه المهندس “إيريك” الذي يعمل معه على نفس المشروع الخشبي في مدينة فانكوفر. وقد تلقى مايكل العديد من التساؤلات حول جدّيته في بناء شيء كهذا، فقد يعتقد البعض أنه فقد صوابه، لذا فقد مكث ملياً ليجيب على كثير من التساؤلات حتى خرج بتقرير مفصل عن مشروعه.
لعلّ أول ما يتبادر إلى أذهاننا عندما نتحدث عن بيوت خشبية هو تعرضها للحرائق، فالأخشاب كما نعلم لها تاريخ عريق في عالم الحرائق، ولكن مايكل يجيب على هذا ببساطة؛ إذ قمنا بإشعال عود ثقاب صغير وحاولنا أن نشعل قطعة حطب ضخمة، فإننا لن نتمكن من ذلك حتماً، ولكن في حالة وجود جو كثيف من النيران فإن الأمر يصبح ممكناً، ولكنها مع ذلك ستحترق ببطء. وباستخدام ما توصلت إليه تكنلوجيا مكافحة الحرائق في عصرنا هذا، يمكن أن تكون هذه المباني آمنة بدرجة كبيرة مثل المباني الإسمنتية.
أما بالنسبة للتصحر وما تسببه المنتجات الخشبية من استهلاك متزايد للغابات، فإن هذا المشروع يعمل بفكرة مختلفة تماماً عما نتصور؛ فهو يعتمد على الأشجار التي قد انقضى عمرها أو التي تتم إزالتها بصورة شرعية لغرض التنظيم. فعندما تموت الأشجار في الغابات فإنها تساهم في انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون إذا تم حرقها، أو أنها ستتحل وتطلق جزء منه في الجو والباقي تحت الأرض. ولكن إذا تمت الاستفادة من هذا الخشب فإن الكربون سيظل محبوس في شكل أثاث منزلي أو مبنى خشبي، حيث يحبس المتر المكعب من الخشب طناً كاملاً من ثاني أكسيد الكربون. كما يمكن اتباع دورات نمو سريعة جداً لإنتاج أشجار تكفي لحاجة للبناء، فالأخشاب المتكتلة لا تتطلب أشجار ضخمة لتتم صناعتها.
وإذا نظرنا لعملية البناء باستخدام الصلب والإسمنت نجد أنها مكلفة للبيئة، فصناعة الصلب تساهم بنسبة تقارب 3%، والإسمنت بنسبة أكثر من 5% من مجموع الغازات الدفيئة التي يتسبب فيها الإنسان، أي أننا نشارك في تدمير البيئة بنسبة 8% من خلال المواد المستخدمة في الأعمال الإنشائية. وعلى العكس تماماً تكون الأخشاب التي تنتجها الغابات في الطبيعة، فخلال فترة حياتها تمتص ثاني أكسيد الكربون وتستبدله بالأكسجين.
إن مستقبل المباني الخشبية يبدو مشرقاً في كثير من الجوانب، فالطريقة التي يعتمد عليها ستكون ملائمة جداً للحاجة المتزايدة للبناء السريع؛ حيث يمكن إنتاج ألواح متكتلة تغطي ستة طوابق في آنٍ واحد، وهو ما يبدو مستحيلاً في المباني الإسمنتية، ولكن الفكرة ستستغرق وقتاً طويلاً حتى تنتشر كما هو حال ناطحات السحاب عندما بدأت؛ فأول مبنًى أطلق عليه ناطحة سحاب في العالم كان من 10 طوابق فقط! وكان الناس من حوله خائفين من المشي تحت المبنى. أما الآن فلم تعد العشر طوابق أمراً مذهلاً، فالمباني قد ارتفعت بعيداً عن ذلك بكثير. وكذلك الحال الآن بالنسبة للمباني الخشبية، فهناك مبنًى في لندن من تسع طوابق، وآخر في استراليا يزيد على 10 طوابق، ويسعى مايكل لأن يكون في مدينته فانكوفر أعلى مبنى خشبي في العالم. ولن يتوقف الأمر عند مايكل، فقد نرى ثورة جديدة في عالم العمارة قد تنتج عنها في المستقبل مدن خشبية بالكامل.