إن الشاعر يرفض الإذعان لسلطة القبيلة، على عكس دُرَيد بن الصِّمَّةِ الذي أعلن رضوخه واستسلامه المطلق لقبيلته، إن هي جارت يجور، وإن هي عدلت يعدل، فهو لا يخالف رأيها مهما كانت الظروف.
وقد يضطر الشاعر إلى إعلان حبه وإعجابه الشديدين بقبيلة أخرى لمجرد وقوفها معه موقفا نبيلا، كالذي حدث مع قريط بن أنيف؛ فالشاعر نظر إلى قومه فوجدهم ضعافا، لا يلبون نداء المستغيث بهم، ولا يستطيعون حماية أحد أفرادها من ظلم قد يقع به، فلامهم لوما لا يخلو من التهكم والسخرية، وأراد أن يستبدل بقومه قوما آخرين، يتسابقون في نصرة من يلجأ إليهم، مستعينا بهم، فقال قريط بن أنيف متهكما بقومه، مادحا بني مازن الذين نصروه(البسيط):
لَو كُنْتُ مِنْ مَازِنٍ لَمْ تَسْتَبِحْ إِبلي
بَنُو اللّقِيطَةِ مِنْ ذُهْلِ بنِ شَيبَانَا
إِذَنْ لَقَامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ
عِنْدَ الكَرِيهَةِ إِنْ ذُو لوثَةٍ لَانَا
قَومٌ إِذَا الشَّرُّّ أَبْدَى نَاجِذَيه لَهُمْ
طَارُوا إِلَيهِ زُرَافَاتٍ وَوُحْدَانَا
لَكِنّ قَومِي وَإِنْ كَانُوا ذَوِي عَدَدٍ
لَيسُوا مِنَ الشَّرِّّ في شَيءٍ وَإنْ هَانَا
يَجْزُونَ مِنْ ظُلْمِ أَهْلِ الظُّلْمِ مَغْفِرَةً
وَمِنْ إِسَاءَةِ أَهْلِ السُّوءِ إِحْسَانَا
كَأَنَّّ رَبَّّكَ لَمْ يخْلُقْ لِخِشْيَتِهِ
سِوَاهُمْ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ إِنْسَانَا
فَلَيتَ لِي بِهِمْ قَوماً إذَا رَكِبُوا
شَنّوا الإغَارَةَ فُرْسَانا وَرُكْبَانَا
لا يَسْأَلُونَ أَخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ
في النَّائبَاتِ عَلَى مَا قَالَ بُرْهَانَا
لَكِنْ يَطِيرُونَ أَشْتَاتا إِذَا فَزِعُوا
وَيَنْفِرُونَ إِلَى الغَارَاتِ وُحْدَانَا [3] |
فالشاعر في هذا الموقف في خصومة مع قومه؛ لأن قومه -كما قال – لم ينصروه، بل خذلوه، وأنجده بنو مازن، وذلك عندما أغار على بعض إبله بنو شيبان، وأخذوا ثلاثين بعيرا، فهو في حيرة شديدة: إما الوفاء لقومه، والإخلاص لهم، والانصياع لأوامرهم، كما كان يفعل دُرَيد بن الصِّمَّةِ؛ وإما أن يهجرهم، ولا يبالي مغبة ذلك، وأيا كانت النتائج فالمهم إبله والحصول عليها، فهو لاشك واقع تحت مطرقة العادات، وهذا ما جعله يختار الاختيار الأصعب، وهو الانحياز لقبيلة غير قبيلته، يحتمي بها؛ لأنه نشد فيها بغيته، ووجد ضالته، فراح يمدحهم،ويشيد بنجدتهم، ونصرتهم للصريخ،بل أعلن عن شدة إعجابه بهم، وببسالتهم، وأنهم قوم لا يسألون المستغيث بهم برهانا على ما يدعي. وفي الوقت نفسة راح يتهكم بقومه، ويلوم عشيرته، ويعلن في صراحة تامة نقمته على قومه، وازدراءه من كثرة عددهم، بسبب ضعفهم، وجبنهم[b][4].[/b]
وإذا حاولنا توكيد هذه العلاقة المضطربة بين الشاعر وقبيلته فإننا لا نكون منصفين، وإنما هو صوت من أصوات الشعراء الجاهليين تجلى في بعض القصائد، وفي مجال الدراسات الأدبية يجدر بنا أن نتناول كل الأصوات التي تعبر عن مضامين فكرية، وآراء مغايرة لما عليه العرف العام في هذا العصر أو ذاك. وفي سبيل توضيح علاقة الشاعر بقبيلته على أساس أنها انحراف مسار عن نظام متصل، لا بد من الوقوف أمام قصيدة الحارث بن وَعْلَة الشيباني الذي وقع في خصومة أشد من الشاعر قريط بن أنيف؛ لأنه في هذه الخصومة يعرض فكرته بكل حزن، وغضاضة نفس، وذلك لأن قومه قتلوا أخاه، والخصومة هنا أشد من تخاذل القبيلة السابقة مع شاعرها؛ لأنها تجاوزت أهم خصوصيتها، وهي الحفاظ على الأفراد، وحمايتهم، والذود عنهم. وموقف الشاعر هنا موقف أشد صعوبة من سابقه، فيقول[b][5](الكامل):[/b]
قَومِي هُمُ قَتَلُوا أُمَيمَ أَخِي
فَإِذَا رَمَيتُ يُصِيبُني سَهْمي
فَلئنْ عَفَوتُ لأعْفُوَنْ جَلَلا
ولئنْ سَطوتُ لأوهِنَنَّ عَظْمِي
لا تَأْمَنَن قَومَاً ظلمْتهم
وبدأتهم بالشتم والرغمِ
أَنْ يَأْبِرُوا نَخْلاً لِغَيرِهِمِ
وَالشَّيءُ تَحْقِرُهُ وَقَدْ يَنْمِى [6]
وَزَعَمْتُمْ أنْ لا حُلومَ لَنَا
"إنّ العَصَا قُرِعَتْ لِذِي الحِلْمِ"
وطئتنا وَطْأً عَلَى حَنَقٍٍ
وَطْأَ المُقَيِِّدِ نَابتَ الهَرْمِ [7]
وتركتنا لحماً علَى وضمٍ
لو كنتَ تَسْتبقِي مِن اللحم |
يتحدث الشاعر إلى محبوبته أميمة واصفا حالته شديدة الحزن، نتيجة اعتداء قومه على أخيه وقتلهم له، مما أوقعه في حيرة من أمره شديدة، أيقاتل قومه، ويرميهم بالسهام؟! فإذا فعل ذلك فسيصيبه سهمه في مقتل؛ لأنه لم ينس أنه منهم، فهم قومه وعزوته، وإليهم ينتسب، ولئن عفا عنهم فسيقع في مأزق أشد صعوبة، وهو استهانة أمره بين القبائل الأخرى، وضياع هيبته، ويكون بذلك عُرْضةً للقبائل الأخرى. إذن فما موقف الشاعر إزاء قومه الذين قتلوا أخاه؟ إن الشاعر يعلن موقفه في صراحة وشجاعة مجردا من نفسه ذاتا ينهاها عن معاشرة قوم أعلن الانسلاخ عنهم وبدأهم بالسب والشتم، بل يعلن أنه لايأمنهم بعد أن أساء معاملتهم.
وجملة القول في ذلك، أن الشعر الجاهلي في علاقة الشاعر بقبيلته لم يكن مطردا، بل تنوعت الأصوات المنادية بهجر القبيلة، وإعلان العصيان عليها. وشعر المنصفات وقف إزاء القبيلة موقفا وسطا؛ فلم يذم القبيلة، ولم يمدحها مدحا مطلقا، واتخذ من العدل والإنصاف معيارا للحكم والقياس بين الشعراء. فلننظر إلى قول عبد الشارق بن عبد العزى[b][8](الوافر):[/b]
شَدَدْنا شَدَّةً فقَتَلْتُ مِنْهُمْ
ثَلاثَةَ فِتْيَةٍ وقَتَلْتُ قَينا
وشَدُّوا شَدَّةً أُخْرَى فَجَرُّوا
بأَرْجُلِ مِثْلِهِمْ ورَمَواْ جَوَينا
فآبُوا بالرِّمَاحِ مُكَسَّراتٍ
وأُبْنَا بالسُّيوفِ قَدِ انْحَنَينا
وباتُوا بالصَّعِيدِ لهُمْ أُحَاحٌ
وَلَو خَفَّتْ لَنَا الكَلْمَى سَرَينا [9] |
فالشاعر لم يعظم من شأن قبيلته، إلا بمقدار ما عظم من شأن القبيلة الأخرى، وساوى بين القبيلتين في كل شيء، ولم تمل كفة فريق على حساب الآخر، ومثل هذه النظرة المنصفة كانت المنطلق الذي انطلق منه الشعراء المنصفون، وذلك بأن نظروا بعين الإنصاف إلى الفريقين، فلهم مثل ما عليهم، فالمساواة بين القبيلتين في الضرب والطعن، وتكافؤ الفريقين في عدد القتلى، والجرحى، كان موقفا جليا في شعرهم، ويؤكد هذا المعنى شاعر آخر من شعراء المنصفات هو المُفَضّل النُّكْرِيّ الذي يقول[b][10]: (الوافر)[/b]
بكَلِ قَرارةٍ وبِكُلِّ رِيعٍٍ
بنَانُ فتىً وجُمجُمةٌ فَليقُ [11]
وكمْ مِنْ سَيدٍ منَا وَمِنْهُمْ
بذِي الطَرْفاءِ مَنطِقُهُ شَهيقُ [12]
بكُلِّ مَجالةٍ غادَرْتُ حِزقاً
مِنْ الفِتيانِ مَبسِمُهُ رَقيقُ [13] |
ويمكن أن ننظر في شعر المنصفات نظرة واعية ترينا إلى أي مدى استطاع الشاعر المنصف أن يكون عادلا في توزيع أفكاره وآرائه بالتساوي بين قبيلته والقبيلة الأخرى، على نحو ما يتجلى ذلك عند الشاعر أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت[b][14](الوافر):[/b]
كَأَنَّ أَكُفَّهُم عَذَبٌ مُلقَّىً
وَحُمّاضٌ بأَيدي مُعلِنينا [15]
فَجاؤُوا عَارِضاً بَرِداً وَحيناً
كَمِثلِ السَيلِ يَمنَعُ وَارِدينا
وَشَيبُ الرأَسِ أَهوَنُ مِن لِقاهُم
إِذا هَزّوا القَنا مُتقابِلينا
كأَنّ رِماحَهُم سَيلٌ مُطِلٌّ
وأَمساكٌ بَأَيدي مُورِدينا [16]
فَلَمّا لَم تَدع قَوساً وَنبلاً
مَشَينا النِصفَ ثُم مَشَوا إِلينا
فَذادُونا بِبيضٍ مُرهَفاتٍ
وَذُدناهُم بِها حَتّى اِستَقَين |
ومن ناحية أخرى، فإن التوجه إلى شعر المنصفات في العصر الجاهلي لم يكن توجها عاما بل كان توجها فرديا، فالشاعر كان أحيانا يضطر إليه اضطرارا عندما يقع تحت ظرف معين، بدليل أن الشاعر عبد الشارق بن عبد العُزّى والمُفَضّل النُّكْرِيّ وهما صاحبا منصفتين كبيرتين لم أجد لهما شعرا غير هاتين المنصفتين، أما خِدَاشُ بن زُهَير والعَبَّاس بن مِرْدَاس فلهما شعر في غير الإنصاف كثير، كما أن لدُرَيد بن الصِّمَّة ديوان شعر كبير وله من المنصفات عدد أبيات قليلة جدا إذا ما قورن بشعره إجمالا. ولكن لكثرة من تناول هذا الشعر في العصر الجاهلي فقد غدا ظاهرة يجدر الوقوف أمامها، وبيان ما فيها من سمات وخصائص مغايرة أحيانا لنمطية إيقاع الشعر العربي من حيث لقاء العدو وتصوير المعركة، إذ إن الغالب في هذا التصوير أن يكون مبالغا فيه أحيانا. يبقى أن ندلل على ما قلناه بشأن التوجه الفردي في شعر المنصفات، يقول دُرَيدُ بنُ الصِّمَّة ستة أبيات وردت بديوانه (الكامل):