مزحة النَّقد تكشف مواقف الآخرين تجاهك! تتستر الكثير من الرسائل التي نرغب في إيصالها للآخرين خلف المزاح، والفكاهة، والسخرية، ففي الوقت الذي يجب أن نعتمد في تعاملاتنا على الوضوح والصراحة في إبداء آرائنا وطرح أفكارنا؛ نجد بأنّ ذلك يتقلص كثيراً بين الأفراد، من دون أن يشعروا بأنّهم مطالبون بتحمل مسؤولية ذلك الرأي، فيلجأ البعض إلى "التريقة" و"الطقطقة" حتى في أكثر الأمور الجادة؛ لأنّه يخشى من ردات الفعل وأن يوضع في موقع تحمل نتيجة تلك الآراء.
وعلى الرغم من أنّ البعض يعتمد كثيراً في نقل رسائله بأسلوب المزح والسخرية، إلاّ أنّ البعض الآخر يجد بأن في ذلك ضياعاً للحقائق التي تحملها محتوى الكلام والآراء، فالمرء عليه أن يكون واضحاً في رأيه ومواقفه، وألا يتهرب من ذلك باستخدام "المزح" و"التنكيت"، كما يجب عليه ألا يترك مسافة للآخر بأن يتهرب من مسؤولية تلك الآراء بتجاهلها، حتى أصبح الصادر للرسالة والمتلقي يدوران حول لعبة نفسية كلاهما يفهم المغزى من المزاح ولكنه يفضل تجاهل تلك الرسائل؛ مما يجعلنا نتساءل: هل استخدام كلمات وتعابير المزح والسخرية في نقل الآراء هو الأسلوب الذي يؤكّد عدم قدرتنا على الوضوح والشجاعة في طرح الآراء، أم أنّ هناك من يستخدمه حتى يتلافى جرح مشاعر الآخرين، وما مدى تأثير الأسلوب على المتلقي؟.
نقد مستتر
واعتبرت "أسماء عبدالحميد" أنّه من أسوأ أنواع الأساليب في التعامل أن يوجه المتحدث رسائله بطريقة السخرية أو المزاح؛ لأنّ في ذلك تقليلاً من الاحترام للمتلقي، خاصةً حينما يكون المتحدث واضحاً بأنه ينقل رسالة، حيث أنّ البعض يدعي أنّه يقصد المزاح والضحك في طرح فكرة ما، ولكنه يفعل ذلك بطريقة تثير حقد وغضب المتلقي، خاصةً حينما تحمل تلك المزحات انتقاداً للمتلقي سواء كان في طريقة أحاديثه أو في طريقة حياته الخاصة أو بأمر يتعلق بعمله.
وأضافت أنّ هذا الأسلوب انتشر كثيراً، فالجميع أصبح يعبر عن رأيه بسخرية، وحينما تستفهم منه عن أسباب ما قاله يستدرك الأمر بقوله: "أمزح.. أمزح"، وفي الحقيقة يكون واضحاً جداً بأنّ ذلك لم يكن مزاحاً؛ مما يوسع دائرة التحامل بداخل المتلقي، الذي يسعى بعد ذلك إلى الرد بالطريقة نفسها، وفي ذلك إثارة للخلافات والكره.
أسلوب سهل
وأوضحت "علياء سلطان" أنّ الكثيرين اعتمدوا على المزاح كوسيلة سهلة للحديث عما يوجد بداخلهم أكثر من الاعتماد على الوضوح، حتى في نقل مشاعر الحب والكره؛ مما جعل البعض يقع ضحية لرسائل غير مفهومة وواضحة بالنسبة لديه، وبالتالي أصبح المزاح مخلوطاً بحقائق، مشيرةً إلى أنّ هذا الأسلوب يكثر في الأوساط النسائية، إذ إنّهن قد يرغبن في التعبير عن نقدهن لقريباتهن فتلجأ للمزاح، ثم إذا ما استوقفن عن حقيقة ذلك الرأي تهربن بذريعة المزاح، مبيّنةً أنّ الجميع الآن لديه القدرة على مقياس صدق المزاح من عدمه.
وأضافت أنّ استخدام المزح قد يكون مجدياً في بعض المواقف، خاصةً مع الأشخاص الذين تربطنا بهم علاقات قرابة قوية، ولكن الحدود الرسمية تحول من دون مصارحتهم ببعض الأخطاء الموجودة، فيستخدم البعض المزاح؛ لأنّه يعلم بأنه سيفهم من خلال الطرف الآخر.
ردة الفعل
وقال "د.سعد المشوح" -أستاذ علم النفس المشارك بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- إنّ ما يحكم العلاقات بين الناس هو مقدار المسافة بين الأفراد، ومستوى المسافة تقاس بمدى قدرة الفرد على التعبير عن مشاعره واتجاهاته وآرائه تجاه الآخرين، فكلما شعر بأنّ المسافة ضيقة بينه وبين الآخرين كلما أدى ذلك إلى أن يعبروا عن آرائهم بكل شفافية، لافتاً إلى أنّ الكثير من الآباء والأمهات يتلقون رسائل أبنائهم بالحب أو الكراهية أو تفضيلهم بين الأخوة، ويعتقدون بأنّ هناك خللاً في الشخصية، وإنما هي رسائل تحمل قوة العلاقة وضعفها في الأسرة الواحدة؛ ولذلك فإنّ بعض من يحاول أن ينقل رسائله باستخدام المزح، إنما هي محاولة لقياس نبض قبول الرسالة.
وأضاف أنّ الإشكالية الكبرى حينما تكون هذه اللغة هي الأولى التي تستخدم في العلاقات، وهنا يكون مكمن الخلل، حيث لا يستطيع الأفراد تحديد أفكارهم واتجاهاتهم وآرائهم إلاّ من خلال حيل دفاعية، تظهر على شكل سخرية، وهي في الأساس رسالة جادة في محتواها، لافتاً إلى أنّ ليس كل البشر قادرين على تحليل مستوى هذه الرسالة؛ مما يجعل علمنا مليئاً بالشوك والضغائن لذلك كلما كان المرء يشعر بالوحدة وعدم القرب من الآخرين كلما استخدم هذا النوع من الرسائل.
وأشار إلى أنّه كلما لجأ الفرد إلى استخدام أسلوب السخرية أو المزح في نقل رسائله بداخل الأسرة كلما كان ذلك دليل على التباعد بين هؤلاء الأفراد بشكل أوبآخر؛ لذلك يجب أن نسعى دائما لأن تكون الرسائل واضحة فيما بيننا في القبول وعدمه، والحب، والكراهية، وإبداء الانفعالات والتطلعات مع الآخرين، موضحاً أنّه يجب علينا أن نكون أكثر عقلانية في فهم المحتوى، ويجب تعويد الأبناء على حقيقة الحب والكراهية والقبول وعدمه، قبول الآخر وفهم المواطنة وحب المدرسة، وكيف يتم التعبير عن مشاعرنا بشكل واضح.
بصيص أمل
ولفت "د.المشوح" إلى أنّ الطرف الآخر قد يعلم بأن تلك الرسالة لم تكن مزحة، ولكنه يتجاهل ذلك الفهم لمعنى الرسالة، ويبدي أنّه مصدقاً بأنّها مزحة، فبمجرد إخفاء تلك الرسالة في أسلوب قائم على المزح فكأننا أعطيناه بصيص أمل في الهروب من الإجابة على تلك الرسالة، موضحاً أنّ المجتمع ما زال للأسف جزءاً من تلك المنظومة التي لم يستطع أن يتخطاها حتى في قضايا الحب والكراهية، فالكثير من الناس يحب شخصاً، ولكنه لا يستطيع أن يصرح بذلك، وحتى الزوج قد يحب زوجته، ولكنه حينما يصرح بتلك المشاعر لزوجته فإنه يصرح بها على شكل مزاح، وقد يستطرد ويقول لزوجته: "أنا أمزح "، ولكنه جاد فيما قاله، فذلك يخلق مجالاً للتهرب من الحقائق التي هي حقيقة وذلك يتطلب منا أن نكون على قدر كبير من الصراحة.
وتعليق..
هناك فرق كبير بين النقد البناء والهادف، لغرض الإصلاح والتسديد، والنقد الساخر بهدف التجريح والسخرية. فإذا كان نقد الآخرين محوره النصح والإرشاد والتوجيه، فهذا ما أمر به ديننا، وهذا هو النقد الإيجابي، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}(التوبة/ 71). وعن النبي(ص) أنه قال: "المؤمن مرآة أخيه المؤمن". وعن علي(ع): "ليكن أحبّ الناس إليك من هداك إلى أمر أرشدك وكشف لك عن معايبك". في المقابل، لا يسمح الإسلام بفتح أبواب النقد الَّذي يكون على أساس التشهير والإيذاء، وتوجيه الاتهامات والافتراءات للآخرين.
وفي معرض تفسيره لقوله تعالى: {وَقُولُواْ للنّاس حُسْناً}، يقول سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض): "هذا هو خطّ التعامل مع الآخرين على مستوى حركة العلاقات الشخصية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بحيث تكون الكلمة الطيبة والقول الحسن والأسلوب الجميل، عناوين إنسانيةً في انفتاح الإنسان على الإنسان الآخر، لأنَّ القول الحسن في اللفظ والمعنى، يفتح القلب، وينعش الروح، ويقرب الإحساس، ويقوي الروابط بين النّاس... وقد جاء عن الإمام الباقر(ع) في تفسير هذه الآية: قولوا للنّاس أحسن ما تحبّون أن يقال لكم، فإنَّ اللّه عزَّ وجلّ يبغض السبّاب، الطعّان على المؤمنين، الفاحش المفحش، السائل؛ ويحبّ الحليم العفيف المتعفّف". [تفسير من وحي القرآن، ج 2، ص 108].
[مصدر التحقيق الأصلي: جريدة الرياض السعودية، بتصرف وتعليق من موقع بينات]