هل يمكنك أن تصبح نابغة في التنبؤ بالمستقبل؟
شارك
تعوّل معظم وكالات الاستخبارات على الشعور الداخلي المستنير لمختصين مدَرَّبين يعملون لديها. إلا أن هناك أشخاصاً من مختلف ميادين الحياة يجيدون التنبؤ بالأحداث، وبشكل روتيني، أفضل بكثير من أولئك المختصين. الكاتبة الصحفية تارا ايزابيلّا بيرتن التقت ببعض هؤلاء الأشخاص.
يعد التنبؤ بالأوضاع السياسية من ضمن أكثر الأدوار حيوية بالنسبة للخدمات الاستخباراتية، مثل: تحديد الاحتمال الأكبر لسقوط حكومة بلد ما في الأشهر القليلة القادمة، أو إذا ما كانت دولة ما تمتلك أسلحة دمار شامل، مما يجعلها تشكل خطراً.
لكن ماذا سيحدث إن لم تكن هناك وسيلة لتقييم دقة هذه التنبؤات– أو الأشخاص الذين يقدمونها؟
في عام 2004، وجد "تحقيق باتلر" في الأحداث التي أدت إلى غزو العراق عام 2003 أن قرار الحكومة البريطانية الخاص بالمشاركة في الغزو- استنادا إلى افتراض امتلاك طاغية حسين لأسلحة دمار شامل- جاء نتيجة لفشل استخباراتي كبير.
لم يكن ذلك إلا مثالاً واحداً على أن التوقعات التي تجرى خلف أبواب مغلقة غالباً ما تكون عرضة للخطأ.
من ناحية أخرى، يشير عمل الباحث فيليب تيتلوك وفريقه في مشروع يعرف باسم "مشروع الأحكام السليمة"- الذي يموله قسم "نشاط مشاريع البحوث الاستخباراتية المتقدمة" بالحكومة الأمريكية- إلى طرق جديدة في التفكير فيما يخص التنبؤ بالجغرافيا السياسية (جيوبوليتكس)، والتساؤل عما يمكن أن يجعل شخصاً ما أفضل استعدادا للتنبؤ بالأحداث العالمية.
وكشف المشروع عن أن هناك أناساً قلائل يمتازون بخصالٍ ومواهب استثنائية لرؤية المستقبل– فهل يمكن أن تكون أنت أحد هؤلاء؟
"عباقرة" بارعون
يعد "مشروع الأحكام السليمة" واحدا من عدة مشاريع تمولها الحكومة الأمريكية للمشاركة في منافسة على غرار دوري المسابقات، وهو حتى الآن أكثر هذه المشاريع نجاحاً.
وقد وظّف المشروع 2000 من أصحاب القدرة على التنبؤ بالمستقبل، وذلك لتقييم احتمال وقوع أحداث عالمية مختلفة.
واستخدمت في ذلك المشروع نماذج مختلفة؛ منها الحثّ على التكهّنات الفردية، أو جمع عدد من أصحاب التنبؤات في فرقٍ متعاونة.
ووجد تيتلوك أن أنجح التكهنات قُدِّمت من قبل مجموعة مركزة بارعة من أولئك "المتنبئين النابغين". كانت سماتهم الشخصية، وليست معرفتهم المتخصصة، هي التي أتاحت لهم التكهن بأمور ما بشكل أكثر دقة مقارنة بعدة وكالات استخبارات عالمية (بحسب "الراديو العمومي الوطني).
هذا بالرغم من أنه لم تُتح لهؤلاء أية بيانات أو معلومات سرية، عدا ما يمكنهم الحصول عليه عن طريق وسيلة بحث مثل موقع غوغل.
وحصل (نيك هير) وهو أحد أولئك "النوابغ" في التوقعات (ويطلق عليهم بشكل غير رسمي أيضا اسم "متنبؤن فائقو القدرة")، بفضل أدائه في "مشروع الأحكام السليمة"، على دعوة لحضور المؤتمر الصيفي السنوي للمشروع.
وقال هير: "يتوقع معظم الناس أن يجدوا مختصين في مجالات عدة، وقد برعوا في ميادينهم." إلا أنه في الحقيقة، كما يقول هير: "هناك أناس يجيدون التفكير في كل الميادين،" متفوقين بذلك حتى على المختصين.
ويمكن لهؤلاء أن يملكوا مفتاح إعادة صياغة أسلوب تفكير وكالات الاستخبارات فيما يخص التنبؤ بما سيحصل في المستقبل.
كان ولع هير باكتشاف أساس ما للقدرة على التوقع الجيد للأحداث السياسية في المستقبل يسبق "مشروع الأحكام السليمة".
فقد عمل هير لأكثر من خمس سنوات كرئيس لقسم التنبؤ بالمستقبل والوسائل والتحليلية بوزارة الدفاع البريطانية، والذي يهدف إلى: البحث عن أساليب لتطوير أداء عملاء المخابرات، وفي نفس الوقت إيجاد وسائل لابتكار المساءلة في ضوء "تحقيق بتلر"، بالإضافة إلى "النظر في كيفية دفع المحلل الاستخباراتي لانتهاج أسلوب معين للقيام بمهمته كي يجعل احتمالية صوابه أكبر،" بحسب هير.
ويضيف: "إنه سر قذر للعاملين في الاستخبارات،" لأن هناك مناهج رسمية قليلة معمول بها تحدد ما إذا كان أي تقرير استخباراتي دقيقاً."
"إذا ما قلنا أنه ’من غير المحتمل للبلد الفلاني أن يتراجع عن هذا الأمر، فماذا نقصد بكلمة يتراجع‘؟ وماذا يعني ’من غير المحتمل‘؟ إن لم يكن شخص ما دقيقاً إلى حد ممل، فإنه سيصعب القول ما إذا كان توقع ما صائباً أو خاطئاً."
وأشار هير إلى فشل الاستخبارات سابقا وحتى حرب العراق عام 2003 –والذي أدى إلى إجراء "تحقيق بتلر" في عمل الاستخبارات، باعتبارها نقطة تحوّل.
وقال هير: "جرت العادة أن يؤتى بأشخاص أذكياء ويوضعون أمام مجموعة من رجال الاستخبارات، ثم يكتبون أموراً معينة. لم يكن أحد يتحقق من مدى صوابهم قبل ذلك".
"التفكير بعقل متفتح"
اندهش هير عند قراءته لمقال كتبه تيتلوك، إذ كان الأخير قد لفت انتباهه وهو يصف الشخص الذي يمكنه التسجيل في مشروع الأحكام السليمة، بأنه "من القلّة الذين يتحدثون عن المستقبل ويهتمون بأن يكونوا على صواب، وليس الهمهمة فقط".
وقد سجّل هير اسمه ليكون من بين متوقعي المستقبل، فقط ليكتشف أن مهاراته كانت بارعة بالفعل حتى أنه اعتُبر من بين النوابغ من أصحاب القدرة على التنبؤ.
إذاً، ما الذي يجعل هير "متنبئاً بارعاً"؟ لا يعود نجاحه، كما يقول، إلى المعرفة فقط، ولكن إلى قدرته على "التفكيرٌ النشط بذهنية متفتحة"، أي تطبيق الطرق العلمية عند النظر بدقة إلى البيانات، بدلاً من السعي لفرض رواية معينة لحالة ما.
على سبيل المثال، عند سؤاله عن التكهن باحتمال قيام كوريا الشمالية بإجراء تجربة نووية خلال الأشهر الثلاث التالية، لم يبدأ هير بتحليل الوضع الجيو-سياسي هناك. كما أنه لم يستقصِ عن احتمال قيام رئيسها الجديد بإجراء هذه التجارب.
إن التفكير في أيٍّ من هذين الاحتمالين، كما يقول، كان سيلغي الآخر. عوضاً عن ذلك، بحث هير فيما يعرف بـ احتمالية المعدل الأساسي.
واستناداً إلى معدلٍ لإجراء تجربة كل 30 شهراً، استنتج بأن احتمال إجرائها في الفترة المعنية ستكون 10 في المئة. ثم غير المعدل الأساسي حسب البيانات الإضافية.
كانت تهديدات كوريا الشمالية بإجراء تجربة، حسب الأرقام المجردة، قد تضاعفت في الآونة الأخيرة. لذا، فقد عدّل هير من توقعاته بإجرائها إلى نسبة 20 في المئة. يقول: "هذا هو النهج الذي عليك سلوكه."
إلا أن هؤلاء النوابغ من أصحاب التوقعات لا يحتاجون إلى خلفية عمل استخباراتية لتطبيق ذلك الشكل من المنطق بنجاح.
وتضمن "حصاد" هذا العام من "نوابع المتنبئين" عدداً من العاملين في حقل الشؤون المالية، إضافة إلى رسام للصور المتحركة، وفنان للرسوم الزيتية، وشخص كان يصنع آلات المصانع.
"أمر غريب"
وقال ريد روبرتس، وهو أحد الأشخاص من "فائقي القدرة" على التوقع، وقد انضم إلى "مشروع الأحكام السليمة" بعد قراءة مدوّنة عنها على الإنترنت، مازحا: "أعتقد أن أفضليتي تكمن في جهلي المُطبق."
وأنهى روبرتس أطروحته في الدكتوراه في موضوع في الكيمياء، وكان يفتش عما يلهيه عن بحثه الأكاديمي وعن دافعٍ لمتابعة الأخبار عن كثب: فقط ليكتشف أنه، هو أيضاً، يملك المهارات الضرورية لتجعله أحد النوابغ في التنبؤ بالمستقبل.
وستشهد روبرتس بمقالة للكاتب البريطاني الشهير أشعيا برلين بعنوان "الثعلب والقنفذ" – وهي مقارنة غالباً ما يستخدمها تيتلوك نفسه. إنها تصنّف المفكرين إلى "قنافذ" يهتمون بأمر واحد فقط لكن بكل دقة، و"ثعالب" يهتمون بأمور عديدة وشاملة ولكن بضحالة.
"الثعالب" من أمثاله، حسب قول روبرتس، يميلون لأن يكونوا متنبئين أفضل من غيرهم. "إنهم لا يتشبثون برواية معينة،" وقادرون على تكييف رؤيتهم ليدمجوا بها أية معلومات جديدة.
وذلك بعكس "القنافذ" الذين غالباً ما يدفعون بالمعلومات الجديدة عنوة داخل هيكلية ذهنية موجودة مسبقاً، أو يهملوها إذا تبيّن تعارضها مع رأيهم الأولي.
من ضمن الأسئلة التي أجاد روبرتس في الإجابة عنها بوجه خاص، هو عما إذا كان الوجود العسكري في بحر الصين الجنوبي سيؤدي إلى وقوع قتلى. نظراً لتحديد الأمر، فقط ظنّ بأن "فاجعة" ما هي أمر غير محتمل، ولكنه لم يستبعد احتمال وقوع شيء غريب.
في النهاية، وقعت حادثة إطلاق النار على صياد سمك، لوجوده في المنطقة بشكل غير قانوني، ما جعل الإجابة عن السؤال تصب في صالحه.
يبقى علينا أن نرى كيفية استجابة وكالات الاستخبارات العالمية لنتائج "مشروع الأحكام السليمة". مع ذلك، وفي هذه الأثناء، يجد العديد من "النوابغ" طرقاً لكسب الرزق من خلال مهاراتهم في القطاع الخاص.
فقد ترك هير مركزه في وزارة الدفاع البريطانية قبل بضعة أشهر خلت ليؤسس شركة "ألِيف إنسايتس"، وهي مكتب استشارات يُعنى بـ"اتخاذ القرارات الاستراتيجية".
وفي ضوء النجاح الذي حققه المشروع، تطورت الشركة لتشمل موقعاً إلكترونياً للأحكام السليمة أيضا. يروّج هذا الموقع لخدماته باعتباره يقدم "توقعات جيو-سياسية مستقلة".
يتفق هير وروبرتس سوية على أن الفائدة الإضافية لمشروع الأحكام السليمة كانت للنابغين من بين أصحاب القدرة الفائقة على التنبؤ. فقد سهّلت عليهم سبل التعرف على بعضهم بعضا، وطوّرت طرقاً للتعاون فيما بينهم.
فأول مؤتمر ينظمه هير للنوابغ من أصحاب القدرة على التنبؤ، حسب قوله، كان شيئاً أشبه بالوحي.