الياسمين الدمشقي
الياسمين هذه الزهرة البيضاء الصغيرة لها قيمة معنوية عالية بالنسبة للسوريين حيث تحولت إلى رمز دمشقي بعدما ارتبطت بتاريخ الشام
وانتشرت في بساتين غوطتها وعلى شرفات منازلها وقرب جدران بيوتها القديمة،وحدائق بيوتها الجديدة وحدائقها العامة والخاصة،الياسمين الدمشقي
ومازالت تشكّل أحد مميزات البيت الدمشقي الرئيسية طالما أن رائحتها توفر أجواء الراحة وتضفي على الجلسات جمالية خاصة.
وحين يُذكر البيت الدمشقي تتداعى إلى الذاكرة مباشرةً صورة نمطية حميمية لحيز مكاني يعبق بأريج الليمون الدمشقي والنارنج الفل والحبق والأضاليا والمستحية والياسمين الدمشقي…
تلك الزهرة البيضاء التي ارتبطت بمدينة دمشق ارتباطاً وثيقاً وأصبحت رمزاً طبيعياً من رموزها عبر العصوركما ارتبطت بالشام تلك الروائح الذكية الرائعة ويكفي ان تمر في الصيف في سكون الليل وهدأته للتنعم بروائح تحس معها انك تسير في الجنة الالهية.
الياسمين الشامي هو كما هو جبل قاسيون…. ونهر بردى… والجامع الأموي… وقبر القديس يوحنا المعمدان…. والشارع المستقيم وحنانيا الرسول وبولس الرسول ومريمية الشام وقبور الصحابة في مقبرة الباب الصغيرومعاوية ويوحنا الدمشقي وجده سرجون وقصر العظم ومكتب عنبر… وسور دمشق وابوابها وقلعتها وسوق الحميدية أقدم اسواق العالم التجارية…كلهاطبعت دمشق بطابعها واسمها
فتميزت بها كلها، ولكنها تميزت اكثر بالياسمين الدمشقي الذي فاز في المسابقة على الجميع… فما ان تأتي على البال اوالاسماع كلمة الياسمين الا ويترادف معها اسم دمشق فتصيرشام الياسمين ، او عاصمة الياسمين او شام الياسمين…لقد توائم اسم الشام مع الياسمين وتزاوجاووضع على هامة الشام وشجيرة الياسمين اكليل الزواج المؤبد الذي لاطلاق فيه: “بالمجد والكرامة كللهما”…
يحكى ان…
عن دمشق والياسمين قيلت الأساطيرمنها:” ان التاريخ تزوج شجيرة ياسمين فأنجب منها دمشق …” نعم هي الياسمينة الدمشقية التي انتشرت في بيوتها القديمة وحدائقها المنزلية وكل زاوية فيها لتصبح الشام عاصمةً للياسمين. وظلت هذه الزهور علامة تميّز الهوية الدمشقية خصوصاً والهوية السورية عموماً، عدا عن كونها غدت ينبوعاً للجمال، وصارت أغنية للشعر…
يقينا انه لم يبق احد من الدمشقيين الا وتغنى بالياسمين الدمشقي وكل على طريقته حتى البسطاء وغير المثقفين…الى كبار المثقفين والأدباء والشعراء…نعم تغنّى الشعراء بالياسمين وغنوا له الشعر والشعر اكثر انواع البوح العشقي تعبيراً…
وتدلّى الياسمين الدمشقي بجماله المفتح للعيون واريج عبقه المفتح للصدور… على شرفات المنازل وجدرانها الداخلية في المدينة القديمة و وجدرانها الخارجية وحدائقها في دمشق الحديثة، وغطّى أدراج البيوت ومداخلها وعتباتها، وعطّرت رائحته التي ترد الروح لنعومتها وبديعها المساءات والأزقة الضيقة والشوارع والأفق الواسع حتى عُرفت بمدينة الياسمين ،وبدت كما يصفها الشاعر الأندلسي ابن الآبار في القرن الثامن الميلادي بقوله عن الشام:
” فتلك عروش الياسمين وزهره………… كزهر النجوم وسط افلاكها تبدو”
ولكن لعل أكثر من تغنى بياسمين دمشق وبياضه الناصع كان والمدينة هو المحامي نجاة قصاب حسن…في احاديثه الاذاعية عن دمشق وحتى عن المحاماة فقلما يمر حديث ما يُدخل به شوقه لدمشق وياسمينها وغيره وامثاله كثيرون… ولكن والحق يقال كان الدمشقي نزار قباني الشاعر العاشق للشام وياسمينها ونساءها وبيتها ومئذنتها وازقتها وقطتها وعصافيرها وبحرات بيوتها المغطاة بزهرات الياسمين…وهوالذي أهدته دمشق “أبجدية الياسمين” حسب تعبيره.
نزار ودمشق والياسمين
وحكاية نزار قباني مع الياسمينة الدمشقية بدأت منذ فتح عينيه على هذه الحياة لأول مرة، وقد ترعرع في ظلها….لتصبح جزءاً من حياته وتفكيره وشعره ونثره
فالياسمينة الدمشقية موجودة في الكثير من قصائد نزار قباني
وأظهر تعلقه الشديد بها حتى أواخر حياته حينما كان يوصي ويصر على أن يُدفن في التراب نفسه الذي نبتت فيه حبيبته ياسمينة دمشق، حيث قال:
“إنني أرغب في أن ينقل جثماني بعد وفاتي إلى دمشق ويدفن فيها في مقبرة الأهل لأن دمشق هي الرحم الذي علمني الشعر، وعلمني الابداع واهداني ابجدية اليالسمين.”
وهكذا عاد الطائر إلى بيته والطفل إلى حضن أمه الأرض في مقبرة الباب الصغير التي تعرّشت على أسوارها زهرات الياسمين الدمشقي البيضاء وهي تفوح بعبيرها الذكي الرائحة والذي يعبق الأجواء…
أما الشاعر محمود درويش فيقول في قصيدته: “في الشام” بمجموعته:
“لا تعتذر عما فعلت في الشام، أعرف من أنا وسط الزحام، يدلّني قمر تلألأ في يد امرأة…عليّ يدلني حجر توضأ في دموع الياسمينة ثم نام…”
وكان في ما مضى “أبو البقاء عبد الله البدري وهو عالم من القرن التاسع الهجري وقد ذكر في كتابه “نزهة الأنام في محاسن الشام”، أن من محاسن الشام هي الحواكير وهي كالحدائق في سفح جبل قاسيون
من محاسن الشام “الحواكير” وهي كالحدائق في سفح جبل قاسيون التي زُرعت بالرياحين والياسمين والأزهار المتنوعة ليحمل منها النسيم العابر طيب الريح، ويسري به الى اماكن أخرى من المدينة”
الياسمين يتدلى على اسوار وجدران البيوت الدمشقية..
أما ظاهرة زراعة الياسمين التي كانت في البيوت العربية الدمشقية الفخمة منها والشعبية، فقد انتقلت عند توسع المدينة الى مناطق جديدة فقد انتشرت زراعة شجيرات الياسمين الدمشقي على أسوار المنازل ودرابزوناتها الحديدية وخاصة في الطبقات الارضية في الأبنية السكنية الحديثة فصار الياسمين اكثر انتشاراً مما كانت عليه في المدينة القديمة فصارت الارصفة تعج بزهيرات الياسمين المنتشرة بكثرة في دمشق وغيرها من المدن السورية، تعتبر من الأجواء الرومانسية البديعة التي تنعش الحياة ببياض هذه الزهرة الناصع ورائحتها الزكية، كما ينتشر على الأرصفة باعة الياسمين الذين يجمعون زهوره في اطواق يتبادلها الناس كهدايا رمزية خاصة بين العشاق الذين يضيفون الرومانسية على جلساتهم بهذه الزهور…
كما ان الكثير من المارة حتى الأولاد يبادرون الى قطف الزهيرات واخذها معهم الى بيوتهم واعمالهم ويضعونها في اكواب الماء او صحون صغيرة لتستمر الروائح الزكية اينما وجدو…
قال الشاعر الدمشقي نزار قباني
الياسمين الدمشقي
هذي دمشق وهذي الكأس والراح………. إني أحب وبعض الحب ذباح
أنا الدمشقي لو شرحتم جسدي……….. لسال منهم عناقيد وياسمين وتفاح