مصطفى كريم
في إحدى بلاد الصين، كان هناك مزارع بسيط يسعى كل يوم ليبحث عن قوت يومه، حتى تعيش زوجته وابنته حياة آمنة مطمئنة، وفي يوم من الأيام اقترض هذا المزارع مالًا ليشتري أرضًا فيعمل عليها وتستقر حياته.
ولكن، من المؤسف أنه اقترض من رجل "جشع"؛ لا همَّ له إلا أن يجمع المال، لا يُراعي أحوال من أقرضهم، فإذا ما جاء وقت سداد الديون، أسرع بجمع هذه النقود، فإذا ما تأخر أحد فرض عليه جباية أو أدخله السجن.
وها هي الأيام تمر والأشهر تجري وراءها حتى مرَّ هذا المزارع البسيط بضائقة مالية، ولم يستطع أن يَرُدَّ الدَّيْن الذي عليه، فما كان من هذا الدائن إلا أن أمهله ثلاثة أيام، إما أن يَسُدَّ الديْن الذي عليه علاوة على الجباية، وإما أن يرفع أمره إلى المحكمة فيدخل السجن.
ومرت الأيام وهذا المزارع يخرج كل يوم؛ يبحث عن مال لِيرُدَّ الديْن الذي عليه ولكن بلا فائدة، ولا جدوى، وحينها ذهب هذا الرجل مع ابنته إلى هذا الدائن يريد أن يستسمحه، ذهب إليه وهو يَجرُّ خطاه، فلما رأى هذا الدائن ابنته أُعجب بها، فقدم له عرضًا حتى يعفو عنه.
قال له: (لا مانع عندي من أن أعفو عنك ولكن في مقابل أن تزوجني ابنتك).
فاضطر هذا المُزارع وابنته أن يوافقا، ورضيا بذلك الأمر، ولكن ذلك الدائن لم يكتفِ بذلك فحسب، بل دبَّر لهم مكيدة في ذلك، أخبرهم بأنه سيأتي بحصاتين، الأولى بيضاء والأخرى سوداء؛ ليضعهما في كيس للنقود، على أن تلتقط الفتاة إحدى هاتين الحصاتين من ذاك الكيس.
فإذا التقطت الفتاة الحصاة السوداء سيتزوجها ويعفو عن أبيها، أما إذا التقطت الحصاة البيضاء فحينها لن يتزوجها وسيعفو عن ذلك القرض، ولكن إذا رفضت أن تلتقط أي حصاة فحينها سيدخل والدها السجن، فما كان من تلك الفتاة إلا أن وافقت على هذا العرض.
كان الجميع في ذلك الوقت واقفًا على ممر مليء بالحصى، فانحنى ذلك الدائن ليلتقط حصاتين ويضعهما في كيس المال حتى تختار الفتاة، ولكنها انتبهت إلى تلك الخُدعة ا لتي أراد ذاك الدائن أن يُمررها بين هذا الجمع الكثير.
فلقد التقط هذا المُخادع من الأرض حصاتين سوداوين ووضعهما في الكيس، وطلب من تلك الفتاة أن تختار حصاة، وحينها بدأت تفكر:
ماذا أصنع لأخرج من هذا المأزق؟
فإذا ما قمنا بتحليل ذلك الموقف، سنجد أن هناك ثلاثة خيارات:
الخيار الأول: أن ترفض الفتاة أن تلتقط من ذلك الكيس، وحينها سيدخل والدها السجن.
الخيار الثاني: أن تَكشِف تلك الفتاة خُدعة ذلك الرجل.
الخيار الثالث: أن تلتقط الحصاة السوداء وتُضحِي تلك المرأة بنفسها لينجو والدها.
تلك الفتاة لو فكرت بطريقتها التقليدية لن تستطيع أن تخرج من هذا المأزق، ولكنها استطاعت أن تأتي بفكرة جديدة إبداعية أنقذتها من هذا المُخادع، فيا تُرى ماذا فعلت؟
لقد قامت بالتقاط أحد الحصاتين ثم قامت باسقاطها على الأرض التي كانت مملوءة بالحصى، فلم يعرف أحد لون هذه الحصى التي قامت باختيارها.
ثم قالت تلك الفتاة الذكية: (كم أنا حمقاء، ولكن من الممكن أن نعرف لون هذه الحصى التي سقطت، فإذا كانت الحصى التي بداخل الكيس سوداء، فالحصى التي قمت باختيارها كانت بيضاء)، وهكذا استطاعت أن تخرج من هذا المأزق بطريقة مبتكرة ذكية، ولم يستطع ذلك المخادع أن يكشف هذا السر الذى أخفاه عن أعين الناس أجمعين.
وهكذا عزيزي القارئ نستخلص من هذه القصة أن هناك حل لكل مشكلة مهما كان حجم تعقيدها، ولكن المشكلة التي يواجهها الكثير هي عدم استغلال تلك القدرات الذهنية التي وهبنا الله إياها.
أهي فطرة أم مهارة يُمكن تعلمها؟
كلٌ منا عنده تلك القدرة ليكون مُبدعًا موهوبًا، ولكن الكثير مأسور في قفص الفكرة الواحدة لا يستطيع الخروج منها، فالكثير يغلب عليه الإيمان بفكرة واحدة مسيطرة، وطريقة واحدة للحل، فالكل يملك حاسة الإبداع ولكن المبدعين وحدهم هم الذين استطاعوا فهم وإدراك قدراتهم الإبداعية حتى سخروها في الواقع العملي.
فالإبداع والتفكير الإبداعي ليس حكرًا لأحد دون أحد، فلقد أثبتت الدراسات الحديثة أن التفكير الإبداعي يُمكن تعلمه والتدرب عليه، حتى يستطيع المرء أن يكون ماهرًا فيها، تمامًا كأي مهارة يسعى المرء إلى اكتسابها، كمهارة استخدام آلة الطباعة, أو مهارة تسجيل الأهداف في مرمى الخصم.
كل منا في حاجة إلى الإبداع:
فكل منا في ميدان عمله في أمسِّ الحاجة إلى التفكير الإبداعي، فلماذا لا يتمكن الخطيب من على منبره في توصيل دعوته؟ ولماذا لا يستطيع المدرس في مدرسته أن يُوصِّل منهجه إلى تلاميذه؟ ولماذا لا يُوفق الإعلامي في إيصال رسالته الإعلامية للكثير من الجماهير؟
والجواب هو الإخفاق في بناء الشخصية ذات التفكير الإبداعي، فالكل قد تجمدت أفكاره على الفكرة الواحدة، بالرغم من أن الكثير من المشكلات لها طرق لا محدودة في الحلول.
رحلة الإبداع:
لذا عزيري القارئ فهذه الرسالة هي خطوة في طريقك لتتعلم كيف تُنمي قدراتك الإبداعية؟
ولكن قبل أن تصل إلى هذه الخطوة الأخيرة، لابد أن تتعرف على مفهوم التفكير الإبداعي، والفرق بينه وبين التفكير التحليلي، ثم نعطيك خارطة الطريق التي ستوصلك إلى أن تصير مُبدعًا، وهي التي تتكون من مراحل ست، بدءًا من مرحلة الإلهام، ومرورًا بمراحل التوضيح والاستخلاص والترشيح والتقييم، وانتهاءً بمرحلة التطوير.
ولكن قد تتعرض وأنت تسير على هذا الطريق لبعض العوائق التي تعرقل قدماك، لذا لابد أن تتعلم كيف تتخطى تلك العقبات حتى تبلغ مرادك.
وأخيرًا هناك بعض المهارات التي يتميز بها المُبدع دون غيره، لذا فاحرص أن تتعلمها، وتمارسها، فالممارسة هي طريق الوصول إلى المهارة.
وبين كل محطة والمحطة التي تليها، ومضة نبوية، نتعلم فيها طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في التفكير الإبداعي، والذي أرسى النبي عليه السلام قواعده لنا منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام.
ما هو الإبداع؟
الإبداع في اللغة هو اختراع الشيء على غير مثال سابق، والبديع هو الجديد من الأشياء، وعلى هذا يتضمن الإبداع اختراع أو إنشاء الأشياء، ولكن لأعلى مثال وأصفى صورة، ومنه قول الله تعالى: {بديع السموات والأرض} [البقرة: ١١٧]؛ فهو مُبدِعها وخالقها على غير مثال سابق، وفي غاية من الدقة والحُسن والإبداع وله المثل الأعلى سبحانه.
وقد اختلف كثير من علماء النفس والتربويون في وضع معنًى للإبداع، فمنهم من يرى أن الإبداع هو مظهر من مظاهر السيولة في التفكير، فهو يعتمد على كمية الأعمال المنتجة بغض النظر عن قيمتها النوعية في عالم الإبداع، ويُركِز آخرون في تعريفهم للإبداع على السمات العامة للمُبدع من حيث قدرته على الإدراك الدقيق للثغرات، والإحساس المُرهف للمشكلات، بالإضافة إلى الأصالة في التفكير والقدرة على التركيز.
فيرى سميث أن العملية الإبداعية هي (القدرة على إيجاد علاقات بين أشياء لم يسبق أن قيل أن بينها علاقات)، بينما يرى الدكتور عبد الحليم محمود أنها (القدرة على إحداث شيء جديد على غير مثال سابق).
بينما يرى محمد أحمد عبد الجواد أن التفكير الإبداعي أو الابتكاري هو (العملية التي ينتج عنها حلول أو أفكار تخرج عن الإطار التقليدي سواءً بالنسبة لمعلومات الفرد الذي يفكر أو للمعلومات السائدة في البيئة بهدف ظهور الجديد من الأفكار)، أما والس فقد عَنِيَ بالمراحل التي يمر بها المبدع حتى تولد الفكرة الإبداعية، والتي حددها في أربع مراحل أساسية، وهي: الإعداد، والاحتضان، والإشراق، والتحقيق، وعرفها آخرون فقالوا: (إن الإبداع أن ترى نفس الأشياء التي يراها الآخرون ولكن بتفكير مختلف).
رحلة الإبداع:
ونستخلص من هذه التعريفات أن الإبداع هو إنشاء أو اختراع شيء جديد لم يكن موجودًا من قبل سواءً كان منتجًا صناعيًا أو تجاريًا، أو كان عملية أو طريقة جديدة، أو كان فكرة وتصورًا مبتكرًا، فقال بعضهم: إن الإبداع هو ابتكار شيء غير موجود مُسبقًا أو استحداث طريقة جديدة لعمل شيء ما أو تطوير طريقة جديدة في النظر إلى الأشياء أو استبدالها بطريقة أخرى.
العملية الذهنية:
إذا كنا قد تعرفنا على مفهوم الإبداع، فما هو الفرق بنيه وبين التفكير الإبداعي؟ والجواب هو أن التفكير الإبداعي يُعرَّف بأنه: العملية الذهنية التي نستخدمها للوصول إلى الأفكار والرؤى الجديدة، أو التي تؤدي إلى الدمج والتأليف بين الأفكار أو الأشياء التي يعتبر سابقًا أنها غير مترابطة.
فيمكن القول بأن الإبداع هو الناتج أو الثمرة النهائية للتفكير الإبداعي، فإذا كان الهدف هو تطوير منتج ما أو تحسين آلية أو توليد حلول متنوعة للمشكلة، فإن الأفكار المولدة أو المنتج المطور سيمثل الناتج الإبداعي، في حين أن الطريقة المستخدمة في التفكير أو بمعنى آخر العملية الذهنية المستخدمة للوصول إلى للحل تعرف بالتفكير الإبداعي.
هذا التفكير، إبداعي أم تحليلي؟
ولكن هل كل التفكير نوع واحد؟ بالطبع لا، فالتفكير الإبداعي له سمات تميزه عن غيره، فإذا كان هناك قواعد تساعد للوصول إلى حل متوقع واحد، فذلك هو التفكير التحليلي، ولكن إذ لم يكن لدى المرء القدرة التحليلية ولكنه يعتمد على القدرة التخيلية، فذاك هو التفكير الإبداعي.
ففي مسائل الرياضة، لا يمكن للوصول إلى حل متوقع واحد إلا بتطبيق القواعد، والمبادئ الرياضية التي تتعلق بذلك الأمر، لذا فأنت في حاجة إلى التفكير التحليلي، ونلخص في الجدول التالي، أهم ما يميز التفكير الإبداعي عن غيره.
الإبداعي
التحليلي
تخيلي
منطقي
غير متوقع
متوقع
متشعب
مركز
جانبي
عمودي
مثال للتفكير التحليلي: 1+1=2.
مثال للتفكير الإبداعي: 1+1=11، أو 1+1=7.
ويُعرَّف التفكير التحليلي بالتفكير المُركَّز التجميعي التقاربي، وذلك لأنه يُركز على إجابة واحدة مفردة، كما أنه يسمى بالتفكير العمودي؛ لأنه يماثل بناء يعتمد كل حجر فيه على ما بُنِي قبله، وهو الأكثر استخدامًا.
أما التفكير الإبداعي فيُعرف أيضًا بالتفكير المتشعب المتباعد، حيث يوجد أكثر من إجابة واحدة للمشكلة الواحدة.
طريقة عمل كلا التفكيرين:
فلو تأملنا في هذين النوعين من التفكير، لوجدنا أن كلًّا منهما له طريقة عمل مختلفة، فعادة يوجد في التفكير التحليلي قواعد وضوابط وأساليب ينبغي تتبعها، فهذا النوع يعتمد على خطوات محددة، فلا يُسمح فيه أن تأتي بخطوة قبل الانتهاء من الخطوة التي تسبقها.
وهذا بخلاف التفكير الإبداعي، فليس فيه قواعد صارمة تحكُمُه، وإنما المُفكر المُبدع يُحلق بخياله، فينتقل من مكان إلى آخر، ومن عالم إلى آخر، حتى تتولد عنده الأفكار.
أهم المراجع:
1. لمحات في التفكير الإبداعي، عبد الإله بن إبراهيم الحيزان.
2. الإبداع، د.عبد الحليم محمود.
كيف تنمي مهارات الابتكار والإبداع الفكري، محمد أحمد عبد الجواد.