قصة قصيرة / مزاد علني في محطة بودابست
طلال معروف نجم
بودابست مدينة أبهرته بجمال طبيعتها . وأيقن انذاك أنها ضمن سلسلة مدن المعسكر الاشتراكي السابق , التي تتميز بالنظافة المفرطة والهدوء والامن والاستقرار . مدن يعيش فيها المواطن وقد ضمن مستقبلا لاخوف منه . مدن تفتقر الى الجريمة وكل اشكال الجريمة المنظمة . خلافا لما يميز مدن الديمقراطيات الغربية , من جرائم في وضح النهار . وتشرد وجوع بين مواطنيها .
في بودابست وايام النظام الشيوعي , بمقدور السائح ان يتجول في ازقة المدينة الى ساعات متأخرة من الليل . وفي محطة القطارات الشهيرة كالتيه , حيث العالم يبدو صغيرا .. فيها الحياة لاتهدأ البتة طوال ساعات اليوم .. الاجانب يتواجدون من جميع انحاء الدنيا . يفترشون ارصفة المحطة . وقد ينامون ليلهم حتى الصباح . يتلفعون ويتدثرون بما لديهم من ملابس ثقيلة .
في الصباح توجه مع صديقي الرحلة الى المحطة , لغرض تغيير بعض ماعندهم من دولارات الى العملة الوطنية المجرية . واكتشف ان معظم من يقوم بتصريف العملات هم من عرب اليمن والسودان . وان المحطة ملتقى كل القطارات القادمة من موسكو وباقي مدن المعسكر الاشتراكي . في محطة كالتيه قد تتوقف القطارات بعض الساعة او أكثر . فتترجل دلالات من روسيا او من بولندا ومن مدن اخرى من دول حلف وارشو . في فترة توقف القطار , يبعن ما لديهن من بضائع وطنية . وهي عادة بضائع تمتاز بالجودة والمتانة . تعكس سيطرة الدولة الشيوعية على خطوط الانتاج السليمة .
في التو لمح فتاة في عمر الزهور , بمعية امرأة بدينة . تقدم من الفتاة محاولا التحدث اليها , فأكتشف انها روسية والمرأة البدينة والدتها , وهذا يعني انه ليس بمقدوره تبادل الاحاديث مع هذه المخلوقة الساحرة . لان جل شعوب المعسكر لايجيدون غير الالمانية الى جانب لغاتهم الوطنبة . اما هو فلغته الانجليزية وحتى لغته العربية , من اللغات النادرة بين ابناء بلدان المعسكر الاشتراكي وقتذاك . كانت الفتاة تلبس قميصا ضاقت مفاتنها بين ثناياه . الشئ الذي لفت نظره , وهو شئ دأب ان يقتنيه منذ الصغر , ان الفتاة كانت بحمالات لحمل سروالها الجينز . لم ينتبه الى اي بضاعة ما كانت بحوزتهما سوى هذه الحمالات , التي أضفت عليها جاذبية . اذن فمراده الاوحد هذه الساعة ان يظفر بهذه الحمالات . ويوم يلبسها ستكون هذه المخلوقة معه في حله وترحاله . أمسك بطرف اصبعه حمالتها . فشعر بنهدها كأنه الفالوذج المترجرج . بينما لوح بيده اليسرى بورقة نقدية فئة العشرين دولارا . وهو يصرخ بفرح غامر وبلهجته البغدادية .
ــــ هذه مقابل هذه الحمالات
فأنفرجت اسارير الاْم . فيما راحت الابنة تزيح الحمالات عن كتفيها وعن سروالها الجينز , وتقدمها له مع ابتسامة هزت كيانه. كان على يقين ان هذه الحمالات لاتساوى أكثر من نصف روبل . هنا رمقته الفتاة متضاحكة , وقد أمسكت سروالها من فوق , تريه بأنه قد يسقط بدون هذه الحمالات . فسارع بجرأته المعهودة عنه , الى دس اصابع يده داخل سروالها الجينز , ساحبا الى الاعلى سروالها الداخلي . فظهر الجزء العلوي منه امام الملا . الذين تجمهروا بهدف التفرج على هذا المزاد في باحة المحطة. كان وردي اللون عكس تورد وجنتيها الاْسيلتين من الخجل . فيما أمسك بيده الاخرى ورقتين نقديتين فئة الواحدة عشرون دولارا . وهو يقول بما يشبه الهتاف .
ـ،ــ 40 دولارا لهذه القطعة المذهلة
لم ةتحرك الفتاة قيد أنملة كما لو أن ذهولا لفها الساعة . ولم تشعر بضربات الاْم على كتفها , تطلب منها التوجه الى حمامات المحطة , لنزع سروالها الداخلي . استيقظت الفتاة من شرودها وقد لوحت بأصبعها بالرفض القاطع . فما كان منه الا ان اضاف ورقة ثالثة , وقد راح يلوح بالورقات الثلاث أمام الجميع . والام تواصل ضرب الفتاة وتعنيفها وتطالبها بالتوجه الى الحمامات . والابنة تصر على الرفض . وقد أضاء وجهها بنور كما لو أنه ومضات راحت تشع على الجميع في وضح النهار . وبأصرار منه ومع استهجان صديقيه وتصفيق الجميع , أضاف الورقة الرابعة وهويهتف بفرح الاطفال .
ــــــــ انه مرادي ولن أحيد عنه .
هناك من العرب المحيطين بهم , راح يترجمون للاْم والفتاة ما كان يقوله . وخيل له ان المحطة بالموجودين بها , قد اندفعوا الى هذا المهرجان . كما لو ان القطارات هي الاخرى لازمت الصمت فتوقفت عن الحركة .
أمام رفض الفتاة المتواصل , أعاد الورقات الاربع الى جيبه , وسجب بدلا عنها ورقة فئة المائة دولارا . وهو يردد بلغة السماسرة الايطاليين .
ـــــ ألــ أون .. ألـ دوي .. ألـ تري
أستشاطت الاْم غضبا , وهالها ما تراه من عناد الابنة . فالتفريط بمائة دولار , يعني خسارة تجارية تعادل مكسب أكثر من رحلة بين موسكو وبودابست .
هنا لجأ الصديقان الى سحبه الى الوراء . فيما تخلص منهما وتقدم بهدوء الى الفتاة ليطبع على شفتيها قبلة عميقة , أحدثت دويا بين الحضور المتجمهر .
كم كان يتمنى لو يهديها الورقة . لولا تخوفه من ان ترفض .
انسحبت الاْم شبه مهووسة الى داخل المحطة , فيما تسمرت نظرات الابنة الى فتاها الشرقي , وهي تلحق بأمها .
في التو أنزع عنه حمالاته , ليضع مكانها حمالات الفتاة الساحرة .
وبالرغم من مرور سنوات طويلة على هذه الحادثة , الا انه يحتفظ بحمالات الفتاة . ويوم لم تعد تنفع بسبب تراخيها , وضعها الى جانب حمالاته الاخرى . وما ان تقع نظراته عليها وهي في دولاب ملابسه , حتى تستيقظ فيهِ ذكريات هي عنده أحلى الذكريات وأعذبها . ِ
طلال معروف نجم